تطل ذكرى الاستقلال في ظروف استثنائية، حيث انتفض شعب شبع استسلاماً وخنوعاً لطبقة سياسية أمعنت في فسادها وفشلت في اتمام الحد الأدنى من واجباتها تجاه جمهورها في الداخل المفتقد لشتى حقوقه المعيشية والحياتية، والمجتمع الدولي المراقب عن كثب لتحقيق مسار اصلاحي جدي حتى تفتح الأبواب لأموال سيدر وتعود الودائع والاستثمارات الخارجية لتدعم نظامين، اقتصادي ومصرفي، باتا على شفير الانهيار والإفلاس الكامل، بسبب فقدان الثقة بالإدارة السياسية لهما والتي فشلت في مكافحة الهدر والفساد ووضع خطة سريعة للخروج من الأزمات المتتالية من دون المس بلقمة عيش ذوي الدخل المحدود.
تطل ذكرى الاستقلال لتذكر اللبنانيين برجالاته الذين دفعوا ثمنه غالياً من اعتقالات ومعاناة وشجاعة وتصميم ورفض لواقع فرض عليهم طويلاً، وشهداء آمنوا بلبنان وطن حر ومستقل ونهائي لابنائه افتقدوه بحياتهم شرط ان تحافظ عليه الأجيال القادمة لتستحقه وتكون أهلاً له، مقابل طقم سياسي بالٍ مستعد ليحرق البلد بمن فيه خدمةً لمصالحه الشخصية وأجنداته الخاصة!
الا ان الواقع جاء مغايراً لأحلام تلك القامات الوطنية.. فقد وقع اللبنانيون لسنوات طويلة فريسة الحروب الأهلية، واستبدلوا دولة لبنان بدويلات الطوائف يتحكم بها أمراء الحرب، لا بل كرّسوهم زعماء زمن السلم، القوامين عليهم، يمسكون بشتى القرارات المصيرية ويمعنون في تعميق الانقسامات المذهبية بناءً على نظرية فرّق تسد، فقامت دويلات الطوائف على انقاض الوطن ودولة المؤسسات… واستمر الضلال سنوات طويلة حتى استشهاد الرئيس الحريري، الا ان ثورة الأرز لم تحرر جميع اللبنانيين من التزاماتهم الطائفية، فتعمق الشرخ وانقسمت الساحة الداخلية بشكل عامودي غير مسبوق، لم يكن له أية قيمة مضافة على الحياة السياسية سوى احكام قبضة زعماء الطوائف على جمهورها وتخويفها من الآخر وعزلها عنه بعد تخوينه، مما ادى لاستنفار الشارع مقابل الاخر لتحقيق المكاسب السياسية الضيقة وتعطيل كل المشاريع الإنتاجية والإصلاحية وصولاً لما يسمى بالتسويات والتوافقات التي كانت أولاً واخيراً تعزز الزعامات على حساب كرامة المواطن وحقوقه!
الى ان جاءت الشعرة التي قصمت ظهر البعير، وأشعلت ضريبة الواتساب نار ثورة حقنتها تراكمات سنوات من الذل والقهر والحرمان من ادنى الحقوق، من دون ان يستجيب اي طرف لمطالب الناس… وقام الشعب وانتفض، ووحدت المعاناة والإهمال والظلم من فرقتهم المذاهب والسياسة، فكانت صرخة مدوية تجاوزت حد الحراك والتظاهر الى ثورة عارمة وشاملة كسرت القيود الوهمية وأسقطت محرمات الطوائف التي تعدت على حرمة الوطن، وأبطلت في الشارع شرعية طقم سياسي فشل على شتى الأصعدة، ولا يزال يصر على المكابرة والعناد والتشبث بخياراته والتي لا تزال بعيدة كل البعد عن نبض الشارع، وتطلعات جيل شاب قرر الإمساك بزمام المبادرة وتحرير وطنه من قبضة أخطبوط السياسة والمال المطبق عليه، وبناء مستقبل لوطن يشبهه ويشبه ما حلم به رجالات الاستقلال.
ليس هناك من داع لعرض عسكري هذه السنة لان المؤسسة العسكرية كانت في استعراض مستمر لدورها الوطني الكبير على مدى الشهر ونيف في ساحات الثورة وشوارعها لحماية الثوار، بغض النظر عن بعض الارتكابات في بعض الأحيان، وعلى الرغم من كل الضغوطات السياسية التي تتعرض لها لوضع نهاية لهذه الثورة السلمية، لاعبة الدور الرئيسي في درء خطر الانزلاق نحو الفوضى والعنف الذي يرغب العديد من أطراف السلطة الوصول اليه لإنهاء هذه الحالة الشعبية سريعاً خوفاً من فقدان السيطرة على شارعهم الخاص.
للاستقلال اليوم طعم آخر، حقيقي وجامع ، خلافاً لسنوات الفولكلور الفارغة… ولرجالاته تحية من نساء ورجال وشيوخ وطلاب حملوا الشعلة وقرروا اتمام المهمة واحياء الاستقلال بعيداً عن القرصنة الداخلية لمقدرات الدولة واستعادة الحلم بالعيش في الوطن بدلا من الهجرة منه… وللجيش والقوى الأمنية الف تحية على دورها الوطني ورفضها لعب دور المواجهة مع أهلها وشارعها وحمايتها للسلم الأهلي وصونها لحق المواطن في المطالبة السلمية بحقوقه… فهل يكتب تاريخ لبنان الجديد اليوم في ساحات الثورة، تاريخ نكون قادرين على تعليمه للأجيال القادمة واستخلاص العبر منه؟ وهل يتحرر السياسيون من مصالحهم الضيقة ويساهمون بمحو بعض من تاريخهم الملوث بالحروب والدم عبر التجاوب مع مطالب الشارع المحقة والتي لا تتجاوز كونها ادنى حقوق المواطن بالعيش الكريم دون منّة من زعيم او حزب سياسي، وبالتالي يساهمون بكتابة تاريخ لبنان الحديث والمشرق، لعل أجيال المستقبل تذكرهم بخاتمه أعمالهم وتغفر لهم ما سلف؟