IMLebanon

القومية الجديدة وأمم تستعيد عظمتها

تأملت طويلاً في وجوه أصحاب القرار العربي الواحد أثناء الدورة الأخيرة لمهرجان الخطابة الذي تقيمه الجامعة العربية بعد كل جريمة اعتداء ترتكبها إسرائيل في الأراضي العربية. تأملت ثم سألت إن كان هؤلاء المسؤولون يعتنقون بحق أياً من مبادئ العمل القومي، وهي المبادئ التي يقوم عليها التنظيم الإقليمي العربي الذي يجتمعون تحت مظلته وعنوانه. هل حقاً أرادوا باجتماعهم أن تسمعهم شعوبهم كما كانوا يريدون في سابق الأيام، أم على العكس، يتمنون ألا تسمعهم الشعوب فتتحفز مرة أخرى للدفاع عن قضية تخص وطناً آخر وشعباً آخر، قضية مثل كل القضايا الخارجية مكانها الآن يجب ألا يأتي قبل القضايا» الوطنية»؟

توجد ولا شك إجابة جاهزة، وهي أنه في الزمن القديم كان المسؤولون العرب يستخدمون هذه القضايا العابرة للحدود السياسية لتحقيق مكانة أرفع لأشخاصهم بين أقرانهم ولدى شعوب العرب. هم الآن يركزون الاهتمام على بناء «مواطن» يرفض بل يقاوم إغراءات الانتماء إلى هوية أخرى بديلاً لهوية الوطن أو إلى جانبها. لا عودة إلى مفاهيم المواطن العالمي أو المواطن القومي أو المواطن الإقليمي. حتى مفهوم المواطنة ذاته يكون ضمن ما تحدده القوانين المحلية في علاقة الفرد بالسلطة وليس كما تعرفه منظومة الحقوق العالمية.

لن أظلم مسؤولي دولنا فأخصهم بهذا التوجه وبحرصهم على حرمان مواطنيهم من التمتع بميزات الانتماء إلى العالمية أو الإقليمية. فالظاهرة بالفعل عالمية وفي ما يبدو حتى الآن، كاسحة. هذه الظاهرة قديمة ومتجددة في آن. لم تكن فكرة «الوطن أولاً» غريبة علينا في عالمنا العربي. كانت شعاراً يظهر ويتوارى وفق حال النزاعات العربية واستقرار الأوضاع الداخلية وتعقيدات التهديدات الخارجية. إلا أننا يجب أن نعترف، ويعترف معنا عديد الغربيين والشرقيين، بأنه على رغم أهمية تطورات في مواقع أخرى فإن الفضل في ما أسميه صحوة «القومية الجديدة» يعود إلى دونالد ترامب. هذا الرجل الذي نجح في دفع 61 مليون أميركي للتصويت لمصلحة إقامة جدار على امتداد حدود بلاده مع المكسيك ولترحيل الأجانب وتقييد الهجرة. نجح هذا الرجل في أن يجعل ملايين الأميركيين يرددون معه شعار استعادة أميركا دولة أعظم، أي يعلنون معه انتماءهم الأوحد، أميركا أولاً.

سبق ترامب إلى رفع شعار الوطن أولاً بريطانيون حين صوتت غالبية لمصلحة «العودة لنكون بريطانيين، ويا حبذا لو عدنا لنكون إنكليزاً». هكذا خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي متخلصة من هوية أوروبا. عادت لتنفذ رغبة الغالبية التي لا تريد مهاجرين بثقافة سلافية وتريد أن تطمئن إلى أنها عندما تشيخ فلن يتقاسم أجانب معها معاشات تقاعدها. وفي الأثناء كان نيغيل فاراج يتابع مستلهماً تجربة ترامب في أميركا ومتفاهماً مع حالات تمرد ضد أوروبا الموحدة في هنغاريا، حيث راح فكتور أوروبان يرفض موقف الغالبية الأوروبية من مسألة المهاجرين العرب والمسلمين ويشل عمل المؤسسات الشرعية ويقيّد الحريات ويطارد الخصوم والمعارضين. بل إنه تجاوز حد المسموح لدولة من شرق أوروبا معتمدة كلية على كرم الألمان وبروكسيل، فراح مرة أخرى يتفاخر بتمرده عليهما وفاشيته المعلنة بالقول «هكذا نعود إلى الديموقراطية الحقة، إنه عالم رائع».

جاء وقت، بعد بريكزيت، عاشت فيه مؤسسات الوحدة الأوروبية في قلق شديد على مستقبل الاتحاد الأوروبي وحرية التجارة والعولمة بخاصة. كانت مارين لوبان تتقدم بسرعة في استطلاعات الرأي كبديل للأحزاب التقليدية في فرنسا. فرنسا حالة تكاد تكون فريدة. يعلم هذه الحقيقة كل من درس تاريخ فرنسا السياسي وطبيعة حكامها وشعبها. شعب فرنسا أسقط لويس السادس عشر ليصدر بعد سقوطه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواطن. كذلك لم يزحف جيش نابليون غازياً القارة الأوروبية تحت شعار مجد فرنسا ولكن حاملاً رايات الحرية والمساواة والإخاء. تختلف هذه الحال عن حال ألمانيا التي ما أن توحدت في أواخر القرن التاسع عشر حتى أعلنت الدم والأرض أساسين للانتماء القومي يسبقان أي أسس أخرى، وأن جيش ألمانيا «جاهز ليحارب من أجل الشعب وضد العالم». المثير في تطور الحالة القومية في أوروبا أن هاتين الدولتين تشكلان الآن الدرع الواقية لأوروبا من زحف الخطر المقبل من جهة «القوميين الجدد». هذه الدرع هي التي تحمي فرنسا من زحف متقطّع من الجبهة القومية وفلول اليمين المتطرف الساعي إلى «فريكزيت» تخرج فرنسا من سباقات العولمة وتعيد إليها مجد «الغال» التليد وفق الرئيس الأسبق ساركوزي. يحمي كذلك ألمانيا من الشعبية المتزايدة لحزب البدائل ولكل ما يمثل من كره للمهاجرين والإنفاق على دول جنوب أوروبا وشرقها. مرة أخرى خلال أكثر من مئة عام تجتمع قوى اليمين مع قوى القومية الجديدة مدفوعة بحنين إلى عظمة متخيلة أو حقيقية وحول قلق شديد على مستقبل غامض، ومتحدة في كراهيتها النظام الليبرالي العالمي القائم وكل ما يمثل من مبادئ وأفكار.

يتحمّس للدفاع عن هؤلاء القوميين الجدد في أميركا وغرب أوروبا الزعيم الروسي فلاديمير بوتين. نراه قد تدخل، كما يشاع في واشنطن، في انتخابات أميركا ليحصل على رئيس ينادي بأميركا أولاً، أي برئيس يسحب أميركا من العالم ويحبسها داخل حدودها. نراه داعماً الجبهة القومية وحزب الاستقلال البريطاني والقوميين الجدد في النمسا وهولندا والسويد. بوتين ذاته لم يخف ميله إلى فكر القوميين الجدد منذ جاء إلى السلطة عام 2000. غالبية خطبه وممارساته دعت إلى استعادة روسيا «عظيمة كما كانت». استعاد شبه جزيرة القرم وكرامة المواطنين الروس المقيمين في دول الجوار كافة وفي مقدمها أوكرانيا. ساعده ويساعده ميل شعبي مناهض لهجرات غير السلافيين إلى روسيا والفساد الطاغي في الحياة الروسية وغلاء الأسعار وشح الوظائف. هكذا استخدم الرئيس بوتين القومية الجديدة أداة لرفض منظومة القيم الغربية كالديموقراطية الليبرالية وحرية التعبير، وصنع لروسيا ديموقراطية خاصة شعارها «حضارتنا يحميها شعبنا ولغتنا وثقافتنا وكنيستنا». بوتين لا يعمل من أجل غد قريب. كل خططه تشير إلى روسيا بعد عقود، روسيا الدولة الأعظم. من أجل هذا الهدف برّر اتفاقيته مع سورية التي تمتد خمسين عاماً بأنها حق لروسيا الدولة العظمى في منطقة شرق البحر المتوسط.

لم تشعر موسكو الشيوعية يوماً بارتياح لشيوعية الرئيس ماو تسي تونغ. لم يخف الزعيم الصيني أنه يطبق التعاليم القومية ويجعلها أساس نظامه الشيوعي. أغلق بلاده ورفض هيمنة روسيا وغاب عن كل التحالفات باستثناء تحالفه مع كوريا الشمالية في حربها ضد القوات الأميركية وقوات كوريا الجنوبية في حرب انتصرت فيها بيونغ يانغ. الدافع وراء هذا التحالف، كالتحالف مع ثوار فيتنام، كان حماية الوطن الأعظم، الصين. لم يحد حكام الصين، خلفاء الرئيس ماو، عن هذه القاعدة القومية. الرخاء ضروري لضمان الاستقرار السياسي، لكن الشعوب تمر أحياناً في مراحل تشاؤم، يسود فيها الشك في المستقبل. هنا تفيد القومية الجديدة. استمع هذه الأيام إلى الصين الرسمية تتكلم. يتحدثون منذ عام 2012 عن الحلم الكبير، حلم الصحوة العظمى، الذي سوف يحققه تنفيذ مشروع طريق الحرير بفرعيه الحزام والطريق. لاحظ الإجراءات التي ترافق تنفيذ الحلم، ارتفاع الصوت الذي يحذر من العدو الخارجي والقوى المعادية، هذه القوى التي أشعلت تظاهرات هونغ كونغ المنادية بتنفيذ التعهدات الديموقراطية، وأشعلت الثورة في إقليم سينكيانغ ذي الغالبية المسلمة. نسمع أيضاً نغمة عادتها على مر القرون أن تعلو وتهبط مع الظروف، هي نغمة اتهام كل «الآخرين» بالغباء أو أنهم أقل قيمة من شعب الصين، نغمة تذكرني بالأحاديث المسهبة التي كنا نسمعها في عهد الرئيس ماو عن «الآخر ذي الأنف الطويل»، في إشارة إلى كل من هو غير آسيوي الملامح، هؤلاء أقل حكمة وذكاء. «نحن أحسن من جيراننا وحضارتنا أقدم وأطول عمراً». الصين في حاجة دائمة، على رغم الرخاء والخير الوفير، إلى تأكيد حضارتها وعظمة تاريخها وفي الوقت ذاته التفوق المستمر على الغرب. والدليل يجسده الحديث الجاري صباحاً ومساء عن أكبر «مول» في العالم جرى تشييده في إحدى المدن الصغيرة نسبياً، سيكون النموذج لاعتماد الصين على نفسها ولاستفادتها من العولمة في آن.

نلاحظ أيضاً أن الدول التي يقودها قوميون مجددون أو جدد تلجأ إلى الإكثار من الأعياد والاحتفالات القومية لإبقاء الشعوب منتبهة ومتحفزة ومؤيدة. أردوغان مثلاً قرر أن تكون ذكرى فتح القسطنطينية في عام 1435 عيداً قومياً، وأن يستعيد الإعلام الرسمي للذاكرة الشعبية إطلاق تعبير الصليبيين الجدد على قادة الاتحاد الأوروبي والغرب عموماً. وقرر الحزب الشيوعي الصيني الاحتفال سنوياً بذكرى مذبحة نانكينغ على أيدي اليابانيين في 1937 والاحتفال بذكرى استسلام اليابان للحلفاء وبيوم الشهداء. المطلوب في كل هذه الحالات إبقاء العداء لجهة خارجية محتدماً في أذهان الشعوب، وإذكاء الشعور بالخطر من الآخرين المتربصين والمتآمرين.

لا خطر كبيراً في انتشار ظاهرة القوميين الجدد طالما ظل التوجه القومي فيها معتدلاً. تكمن الخطورة حين يتطرف القوميون الجدد ويذهبون إلى حد إشعال حروب حقيقية لإثبات عظمة بلادهم. لهذا السبب لا أطمئن للرئيس دونالد ترامب وأخشى انفلات القومية الروسية، تماماً كخشيتي من انفلاتات جديدة وكثيرة وقريبة في الإقليم العربي. الحديث عنها يطول.