أصبح للبنان جارٌ جديدٌ على حدودِه الشمالية الشرقية: روسيا. علاوةً عن سوريا وإسرائيل والبحر الأبيض المتوسط وإيران وداعش والنصرة، ها روسيا تدخل سوريا وكأنها تنفِّذ أُحادياً روزنامةً دولية تقوم على ثلاثة مرتكزات: احتواء النظام السوري، تحجيم الدور الإيراني، وضرب الواقع التكفيري والارهابي في سوريا.
إنه لَحدثٌ استراتيجي في تاريخ الشرق الأوسط من شأنه أن يؤسس: لدورٍ روسي مديد في المنطقة، لعلاقاتٍ أميركية روسية متكاملة، لتحالفاتٍ عربية وإقليمية جديدة، لشرقِ أوسط مُعَدَّلِ الأنظمة والكيانات، ولحضورٍ عسكري غربي، حيث ستحذو دولٌ أخرى حذوَ روسيا، وترسل لاحقاً قواتٍ بريةً إلى منطقة الشرق الأوسط، بما فيها لبنان.
لم توقِّع روسيا «مذكرةَ تفاهم» مع الولايات المتحدة الأميركية تُشرِّع تدخّلها، فالملفاتُ الخلافية بينهما كبيرةٌ حول قضايا العالم، ومن أبرزها مصيرُ أوكرانيا والشرق الأوسط.
لكن طبيعةَ المهمة الثلاثية الروسية تُجيز الاعتقاد بتسليمٍ أميركي مُضْمَر بالدورِ الروسي في سوريا شبيهٍ بالتسليم الإسرائيلي بدخول سوريا إلى لبنان سنة 1976 لتنفيذ روزنامةٍ دولية أخرى كانت تقوم على ثلاثة مرتكزات أيضاً: ضربُ منظمة التحرير الفلسطينية واليسار الدولي، وقفُ تدهور الحالة المسيحية، والحدُّ من تغييرِ النظام في لبنان.
الطريف أن سنة 1976، حذّرت موسكو، عبرَ وزيرِ خارجيتها أندريه غروميكو، حافظَ الأسد، من ان يؤديَ دخولُ قواته إلى لبنان إلى استياءِ الدول السنية منه. أما اليوم، فواشنطن تحذّر عبرَ وزير خارجيتها جون كيري، فلاديمير بوتين، من أن يؤديَ دخولُه إلى سوريا إلى استياء الدول السنية منه. وفي المرتين، التحذيران رسالةُ رفعِ عتبٍ إلى دول الخليج لا رسالةُ عتبٍ على التدخل العسكري السوري بالأمس أو الروسي اليوم.
الدخول العسكري السوري إلى لبنان استبقَ اتفاقية «كامب دايفيد»، فغرق الجيش السوري لاحقاً في الرمال اللبنانية. أما الدخول العسكري الروسي إلى سوريا فيعقُب الاتفاقَ النووي بين إيران والغرب؛ فمهمٌ إذن ألا تَغرَق روسيا (أو تُغرَّق) في رمال سوريا المتحركة، خصوصاً وأن الرمال متوافرةٌ بكثافة في سوريا بحكم الصحراء الداخلية.
ما لم يعترف به أوباما حول خلفيات الدور الروسي، كشفته المستشارةُ الألمانية أنجيلا ميركل بقولها أمس الأول: «إذا لم تنجح الطريقة الروسية في حل المسألة السورية، فمن الضروري التوصل الى حل سياسي بمشاركة الحكومة الحالية والمعارضة السورية وروسيا والولايات المتحدة والمانيا وبريطانيا والسعودية وايران».
هذا يعني أن الغرب ينتظر بلهفةٍ نتائجَ الحل العسكري الروسي، وأنَّ روسيا تقوم عملياً في سوريا بدورٍ نيابةً عن الغرب والشرق والعرب. فهؤلاء، جميعاً، باتوا مقتنعين، على الأقل مرحلياً، بأضرار سقوط النظام السوري وبقاء الارهاب التكفيري، لكنهم لا يستطيعون لا الجهرَ بموقفهم ولا دعمَ الأسد مباشرة، فكانت الوكالةُ لروسيا.
خلافاً لما يظن البعض، لم تأتِ روسيا إلى سوريا لمنع سقوط النظام فقط، فالنظام الحالي باقٍ في المناطق العلوية بحكم التكوين الجديد للكيان السوري، إنما للمشاركةِ في صناعة الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية وآسيا لمئة سنة مقبلة. والملاحظ، أن التدخل العسكري الروسي جاء في توقيت مزدوج: الأول في أعقاب فشل كل القوى العربية والإقليمية والدولية إن بإسقاط النظام أو بتوحيد المعارضة، أو بضرب الإرهاب.
والثاني تقدُّم المسار التقسيمي في سوريا والمنطقة على المسار التوحيدي. بمعنى آخر إن روسيا تأمل أن تنجح حيث فشل الآخرون، على الأقل، في تثبيت النظام وضرب الإرهاب، وأن تأخذ حصتها في حصر إرث سوريا وأنظمة الشرق الأوسط وشعوبه.
لولا هذه الطموحات، لما كانت روسيا غامرت وأرسلت، في سابقةٍ تاريخية، قواتِها إلى سوريا، أي إلى كل الشرق الأوسط. حتى في زمن الاتحاد السوفياتي والحرب الباردة مع الغرب، لم تجازف روسيا بإرسال جيشها وسفنها وطائراتها إلى المنطقة رغم وجودِ معاهدات دفاعٍ مشترك آنذاك مع عدد من الدول العربية وتحديداً مع مصر وسوريا والعراق، ورغم كل الحروب التي حصلت في الشرق الأوسط إن في إطار الصراع العربي / الإسرائيلي بين سنتي 1948 و 1982، وإن في إطار الصراع العراقي / الإيراني بين سنتي 1980 و 1988، وإن في إطار الصراع الخليجي العام من سنة 1991 (حرب الكويت) حتى 2003 (حرب العراق).
لقد هددت موسكو بالتدخل في المنطقة منذ حرب الــ 67، لكنها لم تترجم مرة واحدة تهديدَها رغم الهزائم التي تعرّض لها حلفاؤها العرب في كل هذه الحروب ضد إسرائيل أو أميركا. يبدو أن الرهاناتِ الآن أكبرُ من السابق. كان الصراع على موازين القوى، أما اليوم فعلى الجغرافيا والكيانات ومصير الشعوب.
روسيا التي وصلت سوريا تحت عنوان ضرب الارهاب، هي روسيا الأرثوذكسية لا الشيوعية، أي روسيا التي يُفترض أن تحملَ قيمَ الانسان لا قيم المصالح فقط، وأن تحمي الشعوب لا الأنظمة.
وبالتالي فإن معيارَ نجاح دورها لا يكون بإنعاش النظام العلوي فقط، بل بضمان وجودِ وأمن وحرية ودور كل الأقليات في هذا الشرق، ولاسيما الوجود المسيحي. ضمان الوجود المسيحي في الشرق يبدأ من لبنان وفيه. لذلك، إن الترجمة الحقيقية للدور الروسي المميز هي المشاركة بضمان وحدة لبنان وحدوده ومبدأ التعايش المسيحي الإسلامي فيه.
بتعبير آخر إن روسيا مدعوةٌ إلى أن تلعب في مطلع القرن الواحد والعشرين دورَ فرنسا في مطلع القرن الماضي، فتضمن بقاءَ المسيحيين في أرض المسيح مع إخوانهم المسلمين. حينئذ يكون تصريح الكنيسة الأرثوذكسية الروسية صحيحاً حين قالت «إن مهمةَ روسيا في سوريا هي مهمة مقدسة».