من مفارقات الانتخابات النيابية للعام 2022 انّ كلاً من القوى الأساسية على ضفتي النهر يستطيع أن يقدّم نفسه منتصراً فيها، تبعاً لحساباته ومعاييره في تحديد مفهوم الفوز والخسارة.
بهذا المعنى، يبدو أنّ المجلس الجديد سيكون كناية عن «فيدرالية نيابية» تضمّ مجموعة من الجزر المتفاوتة الأحجام، ربطاً بعدد المقاعد العائد إلى كل منها، وبالتالي سنكون على الأغلب أمام اكثرية متحرّكة، تقاس على القطعة، وتتحكّم بها ائتلافات وتقاطعات موضعية ومتبدلة.
ويُبيّن التدقيق في النتائج، انّ بإمكان كل طرف فهمها مقاربتها من أكثر من زاوية، بحيث انّ هناك أفرقاء جرى اعتبارهم خاسرين للوهلة الأولى، يتغيّر «تصنيفهم» عند إجراء قراءة متأنّية لأرقامهم ودلالاتها.
«القوات» والتحدّيات
الأكيد، انّ «القوات اللبنانية» حققت تقدّماً غير ملتبس، بعدما ارتفع عدد نوابها وزاد وزنها بالمقارنة مع كتلة 2018.
ولكن هذا الفوز هو سيف ذَو حدين، لأنّه سيضع معراب في مواجهة مباشرة مع أزمات وتحدّيات كانت تتهم خصومها بالفشل في التعامل معها، واستطراداً هي ستكون مُطالَبة ببدائل عملية بعيداً من التنظير السياسي، وستصبح شريكة كاملة في تحمّل أعباء المرحلة المقبلة التي تبدو محفوفة بالمخاطر تحت وطأة المشكلات المستعصية والحلول الموجعة، بعدما كانت «القوات» قد قفزت من المركب عقب انطلاق حراك 17 تشرين وجلست فوق التل تتفرج على استنزاف العهد البرتقالي.
وعند حلول الاستحقاقات السياسية والدستورية تباعاً، من انتخاب رئيس المجلس النيابي إلى تسمية رئيس مكلّف وتشكيل حكومة ثم انتخاب رئيس جديد للجمهورية، ستكون «القوات» لاعباً أساسياً في ملعب هذه الاستحقاقات، الامر الذي سيضعها أمام اختبارات صعبة لجهة المواءمة بين خطابها الانتخابي المرتفع السقف والواقع الداخلي الذي يُحتّم تدوير الزوايا وابتكار التسويات للخروج من المآزق.
نجاة «التيار»
اما «التيار الوطني الحر»، وعلى رغم انّ كتلته النيابية تراجعت، الّا انّه يعتبر نفسه منتصراً أيضاً، لاقتناعه بأنّ مجرد بقائه على قيد الحياة السياسية هو انجاز في حدّ ذاته، عقب محاولة الاغتيال المعنوي التي تعرّض لها والعواصف العاتية التي هبّت عليه. فكيف إذا كان قد نجح فوق ذلك في نيل عدد لا بأس به من المقاعد، وفي طليعتها مقعد رئيسه في البترون جبران باسيل الذي كان «رأسه» مطلوباً من قِبل جهات محلية وخارجية.
أضف الى ذلك، انّ التيار سيتخّفف بعد اليوم من عبء وجوده طويلاً في بوز المدفع والمسؤولية، كونه كان يمثل الأكثرية المسيحية في سلطة عاجزة، وهو سينتقل منذ الآن الى إلقاء جزء كبير من «الحمل» الثقيل على «القوات» وسيضعها تحت الضغط الذي كانت تمارسه عليه، وسيلاحقها «عالدعسة»، ليثبت انّ شعارها «بدنا وفينا» كان للاستهلاك فقط ولا يمكن تطبيقه بسبب التعقيدات والتوازنات اللبنانية المعروفة.
كذلك فإن دروس الانتخابات ستسمح لقيادة التيار بفتح الملف التنظيمي الداخلي على مصراعيه، وبإجراء مراجعة تصحيحية، بعدما كشفت المرحلة التي تلت 17 تشرين وصولاً الى الانتخابات النيابية، عن مكامن خلل في الجسم التياري، صار بإمكان باسيل مقاربتها من دون مجاملات ومسايرات.
الحريري مرتاح
والرئيس سعد الحريري بإمكانه أيضاً ان يقنع نفسه وجمهوره بأنّه كان أحد الرابحين في الانتخابات، من دون أن يخوضها، مستنداً من جهة الى انخفاض منسوب التصويت السنّي عموماً، كمؤشر يعكس تداعيات غيابه، ومرتكزاً من جهة أخرى على دلالات تبعثر التمثيل السنّي بعدما كانت زعامته هي الأكثر استقطاباً وتمثيلاً.
والأهم انّ بعض المتمردين على قراره بتعليق العمل السياسي والنشاط النيابي لم يحققوا نتائج وازنة، الأمر الذي من شأنه ان يروي غليل رئيس تيار «المستقبل» الذي ظل حتى اللحظة الأخيرة يرفض دعوة مناصريه الى التصويت.
وبناءً عليه، سيقرأ الحريري جيداً أرقام مراكز الاقتراع السنّية، مشاركةً ومقاطعةً، وسيبني على مؤشراتها حين يقرّر العودة إلى المسرح السياسي.
«الثنائي» والميثاقية
تحالف «حزب الله – حركة امل» هو أيضاً من الرابحين وفق زاوية الرؤية لديه. الأهم بالنسبة إليه انّه استطاع الاحتفاظ بجميع المقاعد النيابية الشيعية الـ27 التي تشكّل خط دفاعه وهجومه في آن واحد. وأساساً، حين هندس «الثنائي» استراتيجيته الانتخابية، كانت أولويته حماية مقاعده من أي خرق، والتصدّي لمحاولة التسرّب والتسلل الى داخل بيئته الحاضنة، ثم تأتي بعد ذلك مسألة السعي إلى تعزيز حصة الحلفاء وتحصينها.
من هنا، يعتبر «الثنائي» انّه حقق عبر الانتخابات الهدف المركزي المتمثل في الاستحواذ على مجمل التمثيل الشيعي في مجلس النواب، ما يمنحه حق الفيتو ويفرضه شريكاً الزامياً في صنع القرار داخل المؤسسات، مستنداً إلى سلاح الميثاقية التي تبقيه رقماً صعباً في معادلة التوازنات، بمعزل عمّا اذا استمرت الأكثرية في حوزة فريقه الاستراتيجي أم لا.
ولعلّ المحطة الأولى لـ»تسييل» التفويض المتجدّد الذي مُنح للحزب والحركة من قِبل جمهورهما العريض، هي انتخابات رئاسة المجلس التي لا مرشح اليها سوى الرئيس نبيه بري، ما دام انّ اي شخصية شيعية خارج مظلة «الثنائي» لم تتمكن من الوصول إلى الندوة النيابية لتكون ولو نظرياً بديلاً يمكن أن يتسلّح به خصوم بري، اقلّه من باب المناورة.
جنبلاط يَطمئن
وليد جنبلاط رابح بدوره انطلاقاً من الحسابات الدرزية الصرف. صحيح انّ لائحة تحالف أرسلان – وهاب – التيار، ولائحة المجتمع المدني تمكنتا من كسب مقاعد مسيحية وسنّية في الشوف وعاليه، إضافة إلى مقعد رئيس «الحزب الديموقراطي» طلال أرسلان الذي آل إلى مارك ضو، الّا انّ ما كان يهمّ جنبلاط بالدرجة الأولى في هذه الانتخابات حماية التمثيل الدرزي للحزب «التقدمي الاشتراكي» في الجبل، وهذا ما تحقق له، ليبقى بذلك الناطق الرسمي والشرعي باسم الغالبية الساحقة من أبناء طائفة الموحّدين الدروز.
المجتمع المدني
ومن بين الجهات المنتصرة في انتخابات 2022، قوى تغييرية من نسيج المجتمع المدني، نجحت في انتزاع مساحة لها داخل المجلس على حساب أسماء مخضرمة ومنحدرة من «سلالة» السلطة.
وهذه الفئة من النواب الجدد قد تتحول بيضة قبان في الاصطفاف الجديد للمجلس النيابي المنتخب.
«بيوتات» صمدت
ومن العلامات الفارقة التي طبعت هذه الانتخابات، صمود بيوتات سياسية ظهر انّها لا تزال جزءاً حيوياً من التركيبة الداخلية وتلاوينها، كما تبين من فوز ميشال الياس المر في المتن، على رغم انّ هذه المنطقة الواقعة في قلب جبل لبنان وفسيفسائه السياسي كانت مزدحمة بلوائح الاحزاب والمجتمع المدني، وذلك في استعادة لتجربة 2018 واصطفافاتها الحادة، انما مع فارق أساسي، وهو انّ من خاض المعركة هذه المرة كان ميشال المر الحفيد وليس الجد.