إستمرّ رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم في إطلاق مفاجآته الصادمة حول سوريا. فبالإضافة إلى إقراره العلني بالقبول ببقاء الرئيس بشار الأسد على رأس السلطة في سوريا موقتاً، تحدّث عن دور أكبر لبلاده في سوريا خلال الأشهر الستة المقبلة.
الواضح أنّ يلدريم يتولى مسؤولية تحضير الشارع التركي للمرحلة المقبلة والتي تتضمّن تسوية سياسية كاملة. ففي كلامه الأخير ما يؤشّر الى دور تركي مباشر في شمال سوريا، ولو ضمن إطار قوات دولية مقابل القبول ببقاء الأسد للمرحلة المقبلة الموقتة، إلّا أنّ الجميع يدركون جيداً أنّ الموقت في الشرق الاوسط يصبح عادة مسألة دائمة.
لكنّ هناك جوانب أُخرى لا تقلّ أهمية يجري العمل على إنجاز تفاصيلها حول الملف السوري بعضها يتعلق بشكل السلطة وطريقة تقاسمها، وبعضها الآخر له علاقة بالترتيبات الميدانية ومناطق النفوذ الجغرافية.
ويتردّد في بعض الأروقة السياسية أنّ لقاءات مكثّفة تُعقد بعيداً من الإعلام في روما حول التسوية في سوريا ويشارك فيها ممثلون لروسيا وتركيا وقطر وإيران والولايات المتحدة الاميركية، إضافة الى مندوبين عن النظام السوري والمعارضة المعتدلة، وهذه اللقاءات تحصل في صيغة ثنائية أو ثلاثية أحياناً، لكنّها لم تصل الى مرحلة انعقاد مؤتمر واحد يضمّ جميع الاطراف وسرّاً.
وقيل إنّ الصيغة التي يتولّى المندوب الروسي خصوصاً مهمة تسويقها تعتمد على تقاسم السلطة، او بتعبير أوضح «لبننة» التسوية السياسية في سوريا من خلال إحداث صيغة مشابهة لصيغة «اتفاق الطائف» في لبنان.
رئيس الوزراء التركي لمّح الى ذلك ايضاً حين اعتبر أنّ السلطة يجب أن تتشارك فيها كلّ الطوائف وأن لا تبقى حكراً على طائفة واحدة.
لكنّ الواضح أنّ القرارين الامني والعسكري داخل الصيغة المقترَحة سيكونان خاضعين لنفوذ التركيبة الحالية للنظام، ولو أنه سيجري تطعيم الجيش والقوى الأمنية ببعض الوجوه الجديدة.
وقيل إنّ المملكة العربية السعودية عبّرت عن رفضها الصيغة المتداوَلة ووضعت ملاحظاتٍ عدة مرتكزة على أنّ هذا الحلّ سيؤدّي الى تعزيز النفوذ الإيراني في سوريا وبالتالي الاعتراف به وتكريسه.
لكنّ السعودية الغارقة في حرب اليمن والتي بدت متصلبة خلال مفاوضات الكويت ما أدّى الى فشلها، واجهت ما يشبه التحذير الأميركي مع إعلان واشنطن سحب ضباطها وخبرائها من خلية استشارية في السعودية مرفِقة ذلك بكلام واضح مندّد بتصاعد القتال في اليمن ومؤكدة أنّ دعمها للسعودية ليس شيكاً على بياض.
هذه الإشارة الأميركية «الفجّة» كان فحواها واضحاً: «زمن الحرب المفتوحة ولّى وعلى الأطراف إنجاز التسويات السياسية الواقعية». ومن هنا تعتقد الأوساط المراقبة أنّ السعودية ملزمة بسياسة أكثر ليونة مع التسويات المطروحة إن في اليمن أو في سوريا، وأنّ هذه الليونة لن تتأخر في الظهور.
روبرت مالي الديبلوماسي الأميركي اليهودي من أصول مصرية والذي يُعتبر خبيراً ومرجعاً في شؤون الشرق الأوسط الشائكة بدا أكثر وضوحاً. فمالي الذي ينتمي الى الحزب الديموقراطي والذي عمل في البيت الابيض ضمن فريق الرئيس باراك أوباما كان قد ساهم في التحضير لقمة كمب ديفيد عام ألفين، وهو بقي مسؤولاً عن ملف الشرق الأوسط في الأمن القومي حتى تشرين الثاني من العام 2015 حين أصبح مسؤولاً عن ملف «داعش».
والأهم أنّ مالي شغل أيضاً مسؤولية الشؤون الإيرانية والعراقية إضافة الى سوريا ودول الخليج، وكان عضواً في الوفد الأميركي الى المفاوضات النووية مع إيران، وسيكون له موقع أساسي في ملفات الشرق الأوسط مع فريق هيلاري كلينتون في حال فوزها.
مالي وفي محاضرة له منذ أيام أبدى تفهّمه للقراءة الروسية لحلّ النزاع في سوريا والتي تقوم على النقاط الثلاث الآتية:
1 – الحفاظ على مؤسسات الدولة والجيش، أي عدم إحداث تغيير جوهري في تركيبة النظام الحالية واقتصار التغييرات على المواقع الشكلية.
2 – دحر «الجهاديين» ولكن من دون أن يؤدّي ذلك الى هزيمة المعارضة غير المتطرّفة.
3 – العمل على حصول انتقال سياسي مرن ما يعني تأمين موافقة التركيبة السورية الحاكمة بكاملها على التعديلات المقترَحة.
وكدليل على أنّ الأمور أضحت أكثر نضجاً وأنّ الحلول أضحت في مرحلة متقدمة، يستعدّ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لزيارته الخارجية الثانية بعد فشل الانقلاب، الى طهران بعد زيارة أولى الى موسكو. وأهمية هذه الزيارة أنها تأتي لتتوّج مرحلة تفاهم آتية بعدما اتّسمت العلاقة السابقة بالبرودة لا بل بالحرب بالواسطة.
مؤشران إضافيان حول اقتراب الحلول:
ـ الأول وهو تصاعد عمليات «داعش» في الداخل التركي. صحيح أنّ التفجير الأخير طاول حفل زفاف للأكراد في ولاية غازي عنتاب جنوب تركيا، إلّا أنه يظهر أيضاً ما يشبه «عرض عضلات»، «داعش»، أمام السلطات التركية أو التحذير الصارم للتموضع التركي الجديد.
ـ الثاني، هو استهداف الطائرات الحربية السورية وبنحوٍ مفاجئ مواقع الأكراد في الحسكة، وهذا التطوّر الذي فاجأ الأميركيين جداً وطاول مواقع قريبة من قواتهم فسّره البعض بأنه جاء بمثابة «ردّ التحية» من إيران والنظام السوري للأتراك قبيل زيارة أردوغان لطهران.
واشنطن التي فاجأتها الغارات السورية لا تبدو مستعدة وفق البرنامج الذي وضعته للتفريط الآن بالورقة الكردية، فهنالك الحاجة للقوات الكردية في معركتها ضد «داعش» وبعد ذلك ستكون مستعدة لإدخال الأكراد في الترتيب الجديد ولو رغماً عنهم. أما الآن فالبرنامج الموضوع لا يسمح بضرب الأكراد.
وإذا سارت الأمور وفق هذا السياق، فإنّ بداية فرض الحلول في سوريا تستوجب انسحابَ القوى غير السورية والتي ستبقى خارج إطار القوة الدولية الى خارج الأراضي السورية. وهذا سيعني التمهيد لعودة «حزب الله» الى لبنان بإنجاز تسوية لبنانية داخلية تشكل مظلّة حماية واستقرار.
رئاسة الجمهورية ليست البند الوحيد لتسوية من هذا النوع. فهناك الحكومة وتركيبتها وتوزيع الحقائب ولا سيما منها حقيبة النفط والضمانات الأمنية، والأهمّ قانون الانتخاب الجديد وتوازنات مجلس النواب وفق معطيات المرحلة المقبلة وظروفها والصورة الإقليمية الجديدة لما بعد سوريا.
هنالك مَن يقول إنّ «حزب الله» قد يجد الظرف عندها مناسباً لانتزاع ما يريد وفي الوقت نفسه ليعطي الفريق السنّي وبالتالي التمهيد لمصالحة معه تحمي عودته من سوريا ويشكل التقارب التركي ـ الإيراني عاملاً مساعداً جداً، وقد تشكل الانتخابات النيابية المقبلة ساحة اختبار لسبل حماية مصالح الطرفين بعد البركان السوري والنزاع الداخلي الطويل، ما يعني أنّ حسابات البعض للانتخابات النيابية وفق القواعد التي حكمت الدورتين السابقتين قد تكون في غير محلها وقديمة العهد وغير صالحة للانتخابات المقبلة، وهذا الكلام موجّه للمسيحيين خصوصاً، والذين يعانون من قصر نظر بعض قادتهم.