انتهت أو تكاد المرحلة الأولى من النكبة السورية. وبدأت أو تكاد المرحلة الثانية، التي يصحّ الظن والافتراض بأنها ستكون أصعب وأمرّ على سلطة الرئيس السابق بشار الأسد وحلفائه الإيرانيين في الدرجة الأولى.
لم يكن خيار عسكرة الثورة السورية ترفاً بقدر ما كان حتمياً للرد على صاحب السلطة في دمشق الذي افترض بأنه قادر على لجم المدّ المضاد له ولحكمه متى تحوّل ذلك المدّ البشري الأكيد خطوط تماس حربية في الجغرافيا. ومتى أمكن توظيف كل «خبرات» الأجهزة الأمنية السورية، لإنضاج حالة «إرهابية» تامة تقصم ظهر المعارضين من الداخل وتشوّه كل مراميهم النبيلة ومساعيهم لإقامة نظام مدني حداثي ديموقراطي بدلاً من نظام بدائي فئوي عائلي حزبي أمني لا يتورّع عن تصغير وظائفه كي تتلاءم مع تركيبات المافيا، مثلما لا يتورّع عن شيء، أياً يكن، للاستمرار في الحكم.
وسلطة الأسد، بل أي سلطة في واقع الحال، متى قرّرت أنها في نزاع لا تسوية فيه ومحكوم بثنائية الحياة أو الموت، تصبح شاطرة في التكتيك لكنها تهلك في الاستراتيجية، وفي الخلاصات والنهايات والمآلات. ولا تعود تنتبه، أو لا تعود قادرة على الانتباه، إلى أن «أدوات» انتصارها التكتيكي هي ذاتها «أدوات» اندثارها الحتمي.
العسكرة أفضت إلى قتال مواقع على الطريقة التقليدية. وذلك أنتج غلبة نارية وعنفية للمحور الإيراني – الروسي بفعل الطيران الحربي والآليات التدميرية المألوفة و«المحرّمة».. ما عنى إحكام القبض على مراكز المدن الرئيسية التي تضم النسبة الأكبر من السكان! لكن انتهاء تلك المعادلة، ولو نسبياً، سيعني الانتقال وفق قواعد العسكرة ذاتها وليس من خارجها، إلى نمط آخر من المواجهة، التي (بالمناسبة) يعرفها جيداً أبرز داعمي الأسد ومن مكانين متناقضين: الروس في أفغانستان. و«حزب الله» في جنوب لبنان.
وطالما أن «القرار» لم يستقر عند «إنهاء» الحرب، فإن المعارك الآتية ستتنقل بين حدود المدن وضواحيها وأريافها ومراكزها! وفي ذلك على ما تقول الحكاية، يسقط «الكبار» في الجبّ ويصير انتصار واحد أسوأ من ألف هزيمة! هكذا كان الحال ولا يزال، من فيتنام العزيزة! إلى أفغانستان الأعزّ! إلى عراق الأمس! وجنوب لبنان ما قبل الأمس!
المعطى الآخر الذي نجح تكتيك الأسد وحماته الإيرانيين بداية ثم الروس لاحقاً، في استثماره بنجاح وفي الاستفادة من تواطؤ إدارة أوباما إزاءه، هو الإرهاب في أقصى حالاته وأكثرها تفلّتاً ودموية ونشازاً ووحشنة، والذي كان ما يسمى «داعش» عنوانه الوحيد!
لكن ذلك بدوره يستثير المقارنات وينكش في التاريخ: «الإرهابيون» الذين «قاتلتهم» الإدارة الأميركية طوال مرحلة التسعينات ثم في مطالع الألفية الثالثة هم ذاتهم الذين كانت تصفهم بـ«المجاهدين» في أفغانستان وتدعمهم بكل سلاح ممكن! وهذه رواية معلوكة من شدّة التكرار، لكنها خلاّبة ولا ينتهي مفعولها طالما أن القياسات تبدو ذاتها في عالم سوريا اليوم وإن اختلفت المؤشرات الظاهرة: لم يخدم «داعش» أحداً بقدر ما خدم الأسد والإيرانيين والروس، وبقدر ما شكّل أفضل غطاء ممكن لإدارة أوباما لإخفاء حقيقة مواقفها! وخدمة مصالحها ومستجدات تلك المصالح! وذلك الـ«داعش» وضع سياقاً تأسيسياً لن ينتهي بانتهاء المعارك الدائرة في وجهه راهناً، طالما أن «الشروط الموضوعية» لنشأته وانتشاره ستترسخ من خلال تأكيد «مذهبية» «القوى المنتصرة» و«مظلومية» «القوى المنهزمة»!
«داعش» الوظيفة ينتهي بانتهاء وظائفه، أكان في العراق أم في سوريا. لكن «داعش» «المثال» و«السياق» لا ينتهي بإعلان «انتصار» الأسد وسيطرة الإيرانيين واستباحة الروس لسوريا! بل العكس هو الصحيح! وذلك استنتاج واقعي وليس افتراضياً! ولا يجوز الظنّ العبيط بأن استراتيجيي الإدارة الأميركية أو الإدارة الروسية لا يضعونه في مقدم جدول أعمالهم الاستشرافي!
لن تنهي معركة حلب الحرب السورية، بل ستنقلها إلى أبعاد جديدة ستفاجئ السلطة الأسدية وملحقاتها الإيرانية المباشرة.. وبقدر ما تسمح إرادة المتحكمين الدوليين بذلك!