ما يجري بين لبنان وغزة وإيران يحمل المؤشرات إلى أن هناك ستاتيكو جديداً قيد الولادة في الشرق الأوسط.
عملياً، وفي غضون 24 ساعة، خسرت «حماس» رأسيها السياسي والعسكري: رئيس المكتب السياسي إسماعيل هنية الذي اغتيل في طهران، وقائد «كتائب القسام» محمد الضيف الذي تأكّد مقتله في الغارات على خان يونس قبل نحو شهر، فيما يطارد الإسرائيليون زعيم الحركة يحيى السنوار بشكل حثيث، وقد أعلنوا نجاحه في التسلّل عبر الأنفاق قبل وقت قصير جداً من وصول مقاتلات الفرقة 98 إلى مخبئه.
وللقضاء على خلايا «حماس» في الأنفاق، سيعمل الإسرائيليون في المرحلة المقبلة على تدميرها أو تعطيلها، وهي بطول آلاف الكيلومترات ومنتشرة تحت قطاع غزة بأكمله. ولأنّ هذه الأنفاق تتصل بنظام واحد متكامل، كما يقول الجيش الإسرائيلي، فقد تقرّر تحطيم ألواح الطاقة الشمسية المثبتة على أسطح المنازل في القطاع، لأنّها توفّر الكهرباء للمنازل والأنفاق معاً. وهذا الأمر سيفاقم الأزمة الحياتية التي يعيشها السكان.
إذاً، بدأت غزة تتعرّض لضغط عسكري إسرائيلي هائل، وسيستثمر نتنياهو حالة «الدلع» التي مارسها على الأميركيين خلال زيارته الأخيرة لواشنطن، ويستغل خصوصاً حاجة إدارة جو بايدن إلى مراعاة إسرائيل ومراضاة الأصوات المتعاطفة معها، حتى موعد الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني.
ويُتوقع أن يرفع الإسرائيليون خلال هذه الفترة من وتيرة عملياتهم العسكرية واغتيالاتهم ضدّ «حماس» للقضاء على آخر فلولها القادرة على التحرك. ويعتقد بعض الخبراء أنّ الإسرائيليين سيُحكِمون سيطرتهم على المعابر مع مصر، لأنّ منها سيجري تنفيذ مخطط التهجير إلى سيناء. فما يريده بنيامين نتنياهو من حرب غزة هو القضاء تماماً على «حماس»، وجعل القطاع نسخة ثانية من الضفة الغربية، أي انتزاع ما بقي فيه من نفوذ للفلسطينيين. وإذا نجح المخطط الإسرائيلي القديم، فإنّ قسماً من سكان القطاع يُراد تهجيرهم إلى سيناء. وهذه هي العقدة التي ما زالت تصطدم بالرفض المصري الصارم، على رغم الضغوط وعمليات الابتزاز الإسرائيلية التي تتعرّض لها القاهرة لترضخ لهذا الطلب.
ما يفعله نتنياهو اليوم، خصوصاً مع احتمال عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، هو إطلاق المسار لتنفيذ هذا المخطط، بدءاً بتصفية رؤوس «حماس» ومقاتليها، وصولاً إلى تصفية ما بقي من القضية الفلسطينية. ويعتقد محللون أنّ الضفة الغربية قد تكون مقبلة أيضاً على صدمات عسكرية وسياسية، بهدف إخضاعها تماماً للسيطرة الإسرائيلية.
لن يفوّت نتنياهو فرصة حصوله على ضوء أخضر أميركي، من أجل تنفيذ الأهداف الإسرائيلية الاستراتيجية. ولهذه الغاية، سيتمّ الضغط على القوى الإقليمية الداعمة لـ»حماس»، وفي مقدّمها إيران، كما على القوى الحليفة كـ»حزب الله»، لجعل الحركة وحيدة ومستفردة في المواجهة.
وهذا تحديداً ما يفعله الإسرائيليون اليوم في لبنان. فالضغط العنيف الذي بدأوا ممارسته ضدّ «حزب الله»، ويتمثل باغتيال كوادره وقادته العسكريين يهدف إلى دفعه لوقف حرب المشاغلة التي أشعلها في بقعة الحدود، بعدما فشلت محاولات إقناعه بذلك عبر الطرق الديبلوماسية.
فصحيح أنّ الإسرائيليين يرفعون حالياً شعار الردّ على صاروخ مجدل شمس، لكن أولويتهم تبقى قطاع غزة لا لبنان.
هناك يريدون محو «حماس» عن الخارطة وتغيير واقع غزة الديموغرافي والأمني والسياسي. وأما هنا فيريدون إبرام صفقة مع «حزب الله»، تنهي القتال والتوتر وتؤسس لتفاهمات حول الحدود ومسائل أخرى. ولا يسعى الإسرائيليون إلى القضاء على «الحزب»، على غرار «حماس»، كما لا يريدون السيطرة على لبنان وتغيير واقعه الديموغرافي والأمني والسياسي على غرار ما سيفعلونه في غزة. وفي عبارة أكثر وضوحاً، إنّ مطالب إسرائيل من لبنان محدّدة ومحدودة. ويكفي حالياً أن يعيد «حزب الله» وضع الحدود إلى ما كانت عليه قبل انفجار الحرب في غزة، في 7 تشرين الأول 2023، فيتوقف هناك أي عمل عسكري من الجهة الإسرائيلية.
في المواجهة مع «حماس»، الإسرائيليون يسعون إلى التصفية. وأما في المواجهة مع «حزب الله» فإنّهم يسعون إلى التسوية. وعلى الجانب اللبناني أن يوافق على طلب وقف حرب المشاغلة أو يرفضه. لكن نتنياهو يبدو مُصرّاً على دفع «الحزب» ليحسم خياره. وهو لذلك رفع مستوى الضغط إلى الحدّ الأقصى.
ويبقى السؤال عن إيران. هل ستخوض معركة مفتوحة بشعار «علَيَّ وعلى أعدائي»، أم ستسمح بخسارة حليفها الفلسطيني وتعطيل دور حليفها اللبناني؟ وهل من أحد مستعد لإعطائها الثمن الكبير الذي سيجعلها تتخلّى عن «حماس» وتوافق على صفقة يعقدها الإسرائيليون مع «حزب الله»؟