بكثير من البراءة والتي تُقارب حد السذاجة في أحيان كثيرة، يتعاطى اللبنانيون مع الازمة الرئاسية التي تكاد أن تخنقهم. ويرتفع الجدل حول رزمة من الاسماء، فيما المشكلة الحقيقة أعمق وأبعد، وهي تصل الى حدود إعادة تشكيل منطقة الشرق الاوسط على وقع الاصطفافات الدولية الجديدة وعلى نار البركان الذي انفجر في أوكرانيا. صحيح انّ لبنان يصبح في هذه الحالة تفصيلاً، ولكنه تفصيل مهم بسبب موقعه الجغرافي على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط.
وما من شك في انّ النار المندلعة في القارة العجوز ألزمَت الدول الاوروبية على رسم سياسة جديدة لها، خصوصا انّ طرفي القتال هما روسيا وحلفاؤها من جهة والولايات المتحدة الاميركية والفريق المتحالف معها من جهة اخرى. صحيح انّ هنالك ضوابط تمنع هذه الحرب من اجتياز خط مرسوم بعناية، والذي حدده الثعلب الاميركي هنري كيسنجر بأنه ممنوع على روسيا ان تخسر وفي الوقت عينه لا يجب ان تربح، الا ان المؤشرات كلها توحي بوجود رغبة دولية باستمرار الحرب الى زمن غير محدد.
وحتى الآن أكلت هذه الحرب بعضاً من قوة موسكو وهيبتها، لكن الانظار تتركز على الصين التي لن ترضى بانتصار اميركي وفي الوقت نفسه تنتظر إنهاكاً اكبر لروسيا يدفع بها الى السقوط كلياً في احضان التنين الصيني، لِتعمد بعدها بكين الى الدخول المباشر على الخط. ولأجل ذلك كانت قمة دول شمال حلف الاطلسي مهمة جداً هذه المرة، فهي عُقدت في العاصمة الليتوانية وعلى بعد 35 كلم فقط من حدود بيلاروسيا الحليف الرئيسي لروسيا.
والخلاصة الاولى لهذه القمة أن اوروبا عادت الى حقبة الحرب الباردة ولكن بمقدار اكثر سخونة هذه المرة بسبب النار الاوكرانية.
وفي وقت قرأ البعض ايجاباً عدم موافقة واشنطن على البدء بعملية ضَم اوكرانيا الى حلف «الناتو»، الا ان البعض الآخر قرأها من زاوية مختلفة وهي رفض واشنطن التورّط مباشرة في الحرب الاوكرانية وفق ما تقتضيه شروط الدول الاعضاء في الحلف، وهو ما يعني استطراداً أنّ الحرب باقية لفترة طويلة وغير محددة. وأحد أهداف هذه القمة تمحور حول صَوغ استراتيجية عسكرية وسياسية جديدة. وهذا ما ينبغي استخلاصه من الطرح الداعي الى توسيع عديد قوات الردع الاوروبية من 40 الفاً لتصبح 300 الف رجل يَتوجّب ان يكونوا في حالة تأهب قصوى ودائمة.
والدول الاوروبية كانت قد آثرَت معالجة التحديات التي واجهتها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية بأسلوب التسويات والمساومات والتنازلات احياناً كثيرة. وجاء سقوط جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي لِيُضاعف من حجم الرهان الاوروبي على الديبلوماسية على حساب القوة العسكرية والعضلات القتالية، وهو ما دفع بوزير الدفاع الاميركي السابق دونالد رامسفيلد الى انتقاد القارة الاوروبية العجوز خلال التحضيرات الاميركية لغزو العراق. لكنّ مزاج اوروبا بدأ يتبدل، بعد غياب التأثير الاوروبي على الخريطة الدولية، وسياسة التسامح إزاء موجات اللجوء غير الشرعي وارتفاع معدل الجرائم، واخيراً وليس آخراً الخشية من طموح روسيا بفرض سيطرتها على اوروبا، بعد نجاح الرئيس فلاديمير بوتين بإحكام قبضته الداخلية.
لذلك أخذت موجة اليمين المتطرف ترتفع في معظم البلدان الاوروبية وهو ما معناه استعادة سياسة الحزم التي باتت تطالب بها الشعوب الاوروبية. وهنالك ما هو أبعد، من خلال ما ظهر مع الاحداث الاخيرة في فرنسا، فلقد تبيّن ان تحرّك الجالية الجزائرية في فرنسا حصل بنحوٍ موحّد في معظم فرنسا، وبالتالي استنتج البعض أن ثمة اشارة تشجيع جاءت من الجزائر البلد الذي يستعد لنزاع مع الولايات المتحدة من خلال المغرب. والاهم انّ روسيا الحليفة القريبة للجزائر قد تكون وراء الطلب برفع مستوى الشغب في فرنسا بسبب مواقف باريس من الحرب الدائرة في اوكرانيا.
صحيح انّ الذهاب في اتجاه خيار تعزيز قوة الردع الاوروبية يتطلب كلفة مالية مرتفعة، لكن بعض الدول المنتجة والمصنعة للسلاح ترى في عودة المصانع العسكرية الى كل طاقتها الانتاجية عامل ازدهار للاقتصاد العسكري والتسليحي.
وفي قمة «الناتو» اراد البعض خَلق قدرة اوروبية على امكانية الدفع بمئة الف جندي في حد زمنيّ أقصاه عشرة ايام ونحو 200 الف اضافي ما بين عشرة الى ثلاثين يوما، وصولاً الى نصف مليون جندي في مدة اقصاها ستة اشهر، وأحد اهداف القمة تَمثّلَ بِثَني موسكو عن فكرة اختراق حدود ليتوانيا ولاتفيا واستونيا وغيرها من الدول الصغيرة في القارة من خلال القوة الردعية الاوروبية وزيادة الانتشار العسكري الاميركي. ومع الاشارة الى ان الدول التي كانت خاضعة للسيطرة السوفياتية كانت اكثر الدول حماسة لتفعيل «الناتو» واعادة رسم سياسة جديدة له، فإنّ الفارق بين الواقع اليوم وبين الحرب الباردة ان طول حدود المواجهة يومها لم تتجاوز 1400 كلم تقريباً، وهو الخط الفاصل ما بين شطرَي المانيا. اما اليوم فوحدها فنلندا لديها حدود مع روسيا بطول نحو 1300 كلم.
لكن ما يهمنا ان اوروبا على حدودنا البحرية، وان الاستراتيجية الجديدة للناتو تشمل الشرق الاوسط وكل البحر الابيض المتوسط. فالاتجاه الاوروبي الجديد والمدعوم أميركياً هو لإخراج النفوذ الروسي والصيني ايضا بعيداً عن الحدود الجنوبية والشرقية لأوروبا، وهنا بيت القصيد.
ولا شك في انّ ثمة مرحلة جديدة قد تشهد تحريك الجاليات العربية والافريقية داخل اوروبا في مقابل التبدّل المطلوب شرق اوسطياً وافريقياً.
ولم يكن من باب المُصادفة تعزيز الوجود الصيني في البحر الابيض المتوسط وتركيز الاستراتيجية الروسية على التمدد جنوباً من البحر الاسود الى البحر المتوسط وافريقيا. وهنا اهمية تركيا التي اتخذت مواقف بَدَت غريبة للوهلة الاولى فهي تخلّت عن سياسة الحياد واقتربت اكثر من الجانب الاميركي وذهبت بعيداً حين طالبت بضَم اوكرانيا الى حلف شمال الاطلسي، و«أهدَت» زيلنسكي قادة «اوزوف» بشكل مخالف للاتفاقية التي كانت قد حصلت مع روسيا.
ورغم هذه المواقف المتقدمة حرصت روسيا على «ابداء تفهمها» لمواقف اردوغان ولم يعدّل بوتين من برنامج زيارته لأنقرة.
الواضح موقع تركيا الاساسي كونها مدخلاً اساسياً الى الشرق الاوسط واختيارها الجانب الاميركي ولو من دون التصادم مع روسيا. واستتباعاً فإن القراءة الغربية وتحديدا الاوروبية ـ الاميركية للساحل الشرقي للبحر المتوسط، والذي يشكل لبنان جزءا منه تصبح اكثر وضوحاً.
واستطراداً، فإن القراءة الغربية للاستحقاق الرئاسي اللبناني لا بد وان تحصل من هذه الزاوية. وكذلك فإن تعاطي «حزب الله» مع هذا الاستحقاق يخضع للقراءة الاقليمية لا المحلية البحتة. وفي المناسبة فلنقرأ بيان الاتحاد الأوروبي جيداً وبكل فقراته.
وهكذا يصبح مفهوماً اكثر القول انّ لبنان غير متروك ولكن توقيته لم يحن بعد، فهنالك ترتيب الصورة في شمال سوريا وانجاز التفاهمات المطلوبة مع تركيا والاتفاق على المعادلة السياسية الجديدة في لبنان. ولذلك سيجهد الموفد الرئاسي الفرنسي لودريان في دفع السعودية الى الانخراط اكثر في الملف اللبناني. وهي المهمة المكلف بها من ادارته. فالسعودية ولأسباب متعددة قد يكون ابرزها المراوحة الحاصلة في ملف اليمن وتعقيدات العلاقة المستجدة مع ايران ما تزال باردة في مقاربتها لملف الازمة الرئاسية في لبنان.
والاهم انّ واشنطن ما تزال تضع ملف الاستحقاق الرئاسي جانباً، ربما في انتظار إنضاج التفاهمات الجديدة في المنطقة. لكن الجديد ان الفاتيكان وبالتفاهم مع باريس اعاد تنشيط ديبلوماسيته في اتجاه البيت الابيض بسبب قلقه الشديد على الوضع اللبناني، وهو المُحبط من أنانية بعض المسؤولين المسيحيين وسعيهم الدائم لمصالحهم الشخصية على حساب المصلحة العامة.
ووفق معلومات محدودة التداول فإنّ اتفاقاً حصل على تحرّك اميركي من خلال مساعدة وزير الخارجية لشؤون الشرق الاوسط باربرا ليف في اتجاه لبنان بالتعاون والتنسيق مع فرنسا والفاتيكان في النصف الثاني من ايلول المقبل، وربما في أواخره، للقيام بالدفع المطلوب لإنجاز الاستحقاق الرئاسي. وتم الاتفاق على ان يُواكِب ليف رئيس الخلية الديبلوماسية الفرنسية ايمانويل بون بعد ان يكون لودريان قد وضع تصوّره النهائي للمهمة التي كُلّف بها.
في هذا الوقت وصلت السفيرة الاميركية الجديدة في لبنان ليزا جونسون الى مقر السفارة في عوكر، لكن المهم ما طلبته واشنطن من دوروثي شيا بالبقاء الى جانب جونسون لفترة بضعة اسابيع لمساعدتها على فهمٍ كامل للخلفيات المعقدة للملف اللبناني، قبل ان تغادر الى مقر عملها الجديد في نيويورك. الواضح انّ واشنطن لا تريد الغياب لحظة واحدة عن التطورت اللبنانية ولأيّ عذر كان.