روبرت كابلان يركز في اللعبة الاستراتيجية على كون “القوة أساس الجغرافيا”. وهو ينقل عن مورجنتاو رائد الواقعية في العلاقات الدولية تأكيده أن “الجغرافيا أهم عنصر ثابت في القوة الوطنية”. لكنّ المهم هو اختيار الاتجاه الملائم لما يراه البلد مصالحة عبر توظيف الجغرافيا في الجيوبوليتيك. فالجغرافيا السورية هي مفصل “وصل وقطع” بالغ الأهمية ولا ممرّ في لبنان إلى العمق العربي إلّا عبر سوريا. ولا عمق في الشمال للأردن وفلسطين إلّا من خلال سوريا. وما أكثر ما استخدم النظام السوري “الوصل أو القطع” حسب اللعبة السياسية. خلال الحرب الطويلة بين العراق و “الثورة الخمينية” قطعت دمشق الوصل مع بغداد ودعمت طهران، ثم صار الوصل مفتوحاً بالكامل مع إيران بعد نهاية نظام صدام حسين. ومنذ الرئيس سليمان ديميريل حتى الرئيس رجب طيب أردوغان، والمراوحة مستمرة في العلاقات السورية – التركية بين الوصل والقطع حسب الظروف السياسية. لا بل إن حرب سوريا عام 2011 أدّت إلى قطع الجغرافيا السورية عن الخليج وبقية البلدان العربية. لكن التحوّلات الاستراتيجية تحدث اليوم.
سقوط النظام السوري كان صدمة كبيرة لإيران و”محور المقاومة” الذي تقوده. لا فقط بخروج هؤلاء من سوريا في كل المواقع بل أيضاً بالضربة الشديدة التي أصابت “المحور الإيراني”. فالزلزال الذي أحدثته حركة “حماس” بإسرائيل عبر عملية “طوفان الأقصى” انتهى إلى تدمير 80% من غزة وقتل العديد من القيادات والكوادر الحمساوية، بحيث صار الحفاظ على رمزية “حماس” مطلباً مهماً لطهران ودافعاً لدى “حزب اللّه” إلى”حرب الإسناد”. وحرب الإسناد التي استغلتها إسرائيل لشن هجوم كبير على لبنان وجهت ضربة شديدة للبنية التحتية والقيادات والأسلحة في صفوف “حزب اللّه”.
واليوم جاءت الضربة الكبرى والأفعل: خروج الجغرافيا السورية من المحور الإيراني. خط تسليح “حزب اللّه” توقف أو صار صعباً جداً. والنفوذ الإيراني في لبنان يواجه تحديات هائلة. والوضع في العراق دقيق، حيث لا ينفع الحشد الشعبي. والحوثيون صاروا في ورطة لا يعرفون كيف يخرجون منها.
ولا أحد يعتقد أن النظام الإيراني انتهى، لكنه ضعف بالتأكيد. ولا مهرب أمام “حزب اللّه” من مراجعة وإعادة نظر وإجراء قراءة عميقة في ما اعترف بأنه “تحول كبير وخطير”. فالجغرافيا ثابتة في القوة الوطنية. لكن الجغرافيا قوة في أن تكون لجميع الشركاء في الوطن، وليس لأن يصادرها طرف واحد. وسواء تعلم الجميع الدرس المعروف القائل إنه “عند تغيير الدول احفظ رأسك” أم لا، فإن المتغيّرات جارفة. ويكفي أن لبنان للمرة الأولى منذ ثلث قرن بلا هيمنة سورية وإيرانية.
و”التاريخ هو الحكم الأخير” كما قال هيغل.