Site icon IMLebanon

العهد الجديد: الفرص والمخاطر

انتخب النوّاب الممددون لأنفسهم يوم الإثنين الماضي العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية.

كيف سيُدار التفسخ الداخلي المستجد، في ظل قبول خارجي، وإن من دون حماسة، بالترتيب الحاصل؟

وضوح الاصطفاف بين الأصيلين والطارئين، الاحتياج إلى فترة مديدة لطرح الاتفاق، حدة المواجهة السياسية وصولاً إلى جلسة الانتخاب المذلة، كلها تعني أن المرحلة الانتقالية لم تنته. لكن الاتقسام الطاغي انتقل، ولو مؤقتاً، من كونه مرتبطاً بعناوين الصراع الإقليمي واستتباع الأطراف الداخلية وفقها، ليرتبط بعناوين داخلية. ولما كان معلوماً بالمعيش أن الاصطفاف وفق شعارات المحاور الإقليمية كان في أساسه مرتبطاً بمصالح الفئات المحلية (تمويلاً واستقواءً) وأن التعاون بين الأطراف المتخاصمة علناً كان مستمراً لتأمين مصالحها المشتركة، فإن هذا الانتقال يجعل مصاعب إعادة صياغة النظام السلطوي أكثر وضوحاً.

فما هي عناوين الصراع الداخلية هذه؟

بما أن النظام السياسي الاقتصادي في لبنان قائم على استجلاب الرساميل (الحلقة المالية) وضبط توزيعها عبر قنوات عامة وخاصة، لقاء تثبيت ولاء المستفيدين (الحلقة السياسية الزبائنية ـ الطائفية). وبما أن حجم الرساميل المستجلبة متناقص، فالاختلاف بين القابضين على قنوات التوزيع (الأصيلين في السلطة) والطارئين عليها (رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة وحلفائهما)، يمكن أن يؤول إلى إحدى النتائج التالية:

  1. تثبيت النظام، والمساومة مع الطاقم القديم ليقلص حصته لمصلحة حصة القادمين الجدد. هذا يمر بتثبيت طاولة الحوار وصفتها المرجعية، وباعتماد نظام انتخابي يكرس مواقع الأطراف جميعاً مع تعديلات طفيفة، وبالعفو عما مضى من أعمال غير قانونية لا سيما في مجال التصرف بالمال العام. فيكون انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية جائزة ترضية.
  2. تثبيت النظام وإزاحة الطاقم القديم من المواقع الرئيسة واستبداله بالطاقم الجديد (كما حصل سنة 1992). وهذا يمر بتعديلات في المواقع وأنظمة الانتخاب وموجة تعيينات وبالمحاسبة على ملفات محددة، وقد يفضي إما إلى توترات سياسية بين الكتل، أو إلى أزمات داخل بعضها، أو إلى ممانعة بعض الكتل الطارئة حيال السير به.
  3. تعديل النظام بحيث لا يعود قائماً على المنطق نفسه ومواجهة مخاطر إدارة المرحلة الانتقالية. لكن في هذا المجال، تعترض القوى الطارئة التي تقرر السير وفق هذا الخط إشكالية جوهرية، هي أن نقطة قوتها هي بالذات نقطة ضعفها، فرفضها للسلطة القائمة انحرف إلى رفضها للحصة العائدة إلى الكتلة الطائفية التي تمثلها ضمن منطق هذه السلطة (في تكرار لمقولة الحرمان في السبعينيات التي تحولت، من المطالبة بتعديل النظام الاقتصادي الاجتماعي، إلى تكريسه وتعديل الحصص الطائفية ضمنه). وهذا يحتم صيغاً تتلاقى فيها هذه القوى مع أطراف لا يأسرها الاصطفاف الطائفي ولا الارتباط الخارجي.

كل مسار من هذه المسارات الثلاثة يفرض إذاً تحالفات ومواجهات مختلفة، ويحتاج إلى قواعد وشرعية للخطب والحجج مختلفة أيضاً.

الموقف والمحطات

إن انتخاب العماد ميشال عون لم ينه المرحلة الانتقالية، لكنه حدث مهم، ليس فقط لأنه يعيد الأمل بتحريك الأوضاع في نظر مناصريه بعد نضال طويل وفي نظر مواطنين كثر، بل أيضاً لأنه يظهّر بجلاء مكامن أزمة الدولة والمواطنة في لبنان، بعد إشاحة سرديات 8 و14 آذار.

انتخاب رئيس للجمهورية ثم تكليف السيد سعد الحريري بتأليف الحكومة لا يعنيان الخروج من المرحلة الانتقالية ولا يعنيان، حتى في حال تأليف حكومة وإجراء انتخابات نيابية، وهما أمران غير مضمونين، استقرار النظام على أسس كفيلة بمواجهة المخاطر الجسيمة المحدقة بالمجتمع، لأن الشغور لم يكن سوى نتيجة للمشكلة لا سببها. سبب المشكلة هو ادعاء عدد من زعماء الطوائف التمثيل الحصري والمطلق للبنانيين، لا بوصفهم مواطنين ومواطنات في دولة، بل بوصفهم رعايا كتل طائفية ـ زبائنية، قلقة ومتناحرة ومدفوعة دوماً إلى المراهنات الخارجية.

لكن الظرف يستحق العناية والتصرف بمسؤولية، لا لشيء إلا للضرورة الملحة في مواجهة النزيف البشري والمالي والمعنوي المستمر والمخاطر الداهمة.

إن حركة «مواطنون ومواطنات في دولة» ترى، أن تعامل المخلصين مع الظرف الراهن يتوقف على ما سوف يتخذه المسؤولون الجدد من مواقف من المسائل الأساسية المطروحة بحكم الواقع، لبناء دولة مدنية، ديموقراطية، عادلة وقادرة. وهي سوف تطرح تصورها لمواجهة كل من هذه المسائل خلال الفترة المقبلة.

طاولة الحوار بديل لانتظام الدولة

هذه المسائل يمكن إدراجها ضمن وجهتين متقابلتين:

من وجهة أولى، انتظام أداء السلطات العامة، لأن سقوط هذا الانتظام هو الذي جعل السلطة فاشلة وفضائحية، وأدخلها في المرحلة الانتقالية. وفي هذا السياق يأتي أولاً دور رئاسة الجمهورية التي صوّرت طويلاً على أنها دور «الحكم» بين متنازعين خارج أي مرجعية ناظمة، وهو الدور الذي كان يتولاه، حتى سنة 2005، وبالنيابة عن الرعاية الإقليمية، مسؤول الاستخبارات السورية في لبنان، فيما وظيفة رئيس الجمهورية هي السهر على الدستور بوصفه مرجعية انتظام أداء المؤسسات، أي فرض احترام قواعده، وبت تراتبيها في حالات الالتباس. ويأتي من ثم نظام عمل مجلس الوزراء، والعودة دون انتظار إلى الالتزام بقواعد المالية العامة، إجازة وتنفيذاً ومحاسبة، لوقف تحول المال العام إلى مال مسلوب وسائب، ومن ضمنها استرجاع الأملاك العامة وضبط الدين العام، دفقاً ومخزوناً واتصالاً بالسياسات النقدية.

ومن وجهة مقابلة، صدقية التمثيل السياسي، لكون تعطيل آلياته أو تحويرها الفاضح هو الذي أسقط شرعية السلطة وأغرقها في المرحلة الانتقالية. وهي لا تتوقف عند النظام الانتخابي، على أهميته، بل تتعداها إلى كل ما يبني اقتناع اللبنانيين واللبنانيات بأن لهم حقوقاً بوصفهم مواطنين ومواطنات، بحيث يكون التمثيل السياسي، في أذهانهم، الإطار، ولو غير المثالي، لرسم حدود هذه الحقوق ولتوزيع الأعباء الناجمة عن تحقيقها، ولا يعود، الساحة التي تحدد من خلالها الأحجام النسبية للكتل الطائفية ـ الزبائنية ومواقع الزعماء المتبارين ضمن كل منها.

طاولة الحوار هي العقدة التي تجمع الوجهين، موقعاً للقرارات بديلاً من انتظام الدولة، واستئثاراً بصفة تمثيلية مطلقة وحصرية. وتوسعاً، الخيار بين مرجعيتي العرف (الطائفية والميثاقية من ضمنه) والدستور (الصفة المدنية للدولة) وإن اعتمد الدستور مرجعاً، ترتيب أولوية مندرجاته بين الانتظام المبدئي (واجبات الدولة ووظائفها) والتنظيم الإجرائي (تحويل المسؤوليات إلى صلاحيات)، وخير مثال على ذلك مسألة الموازنة العامة. فالموازنة العامة هي السند الشرعي الوحيد للجباية والإنفاق والاستدانة، وإرسال مشروعها من قبل مجلس الوزراء موجب مطلق ومحدد التاريخ. فهل يعني ذلك أن إحجام الحكومات السابقة عن إرسال مشاريع الموازنة ودخول الحكومة الحالية في تصريف الأعمال يجيز الاستمرار بالتصرف الكيفي بالمال العام؟ أم أن الانتظام المبدئي الذي يحكم تصرف السلطة بأموال المواطنين يسمو على احترام التنظيم الإجرائي الذي ينيط بمجلس الوزراء مسؤولية محددة، لا صلاحية استنسابية. في مطلع سنة 2011 في بلجيكا، وبعدما كانت الحكومة في موقع تصريف الأعمال منذ نيسان 2010، قام الملك، بصفته حاميا للدستور، وكي يحترم الانتظام المبدئي للدستور، بتوسعة صلاحيات حكومة تصريف الأعمال لترسل مشروع موازنة سنة 2011، وهو ما حصل.

بناءً على ما سبق، تؤكد «حركة مواطنون ومواطنات في دولة» أن موقفها من أي طرح أو حدث سياسيين يحدده مدى مساهمة هذا الحدث أو الطرح، سلباً أو إيجاباً، في بناء دولة ديموقراطية مدنية قادرة وعادلة. من هذا المنطلق ننظر الى الفرص من دون أن نغفل عن المخاطر.