انتخب النواب الممددون لأنفسهم يوم الإثنين الماضي العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية.
هذا الحدث الذي كان يبدو غير ممكن حتى وقت قريب يستدعي قراءة دقيقة 1) لأسباب حصوله، ثم 2) لمجرياته وأخيراًَ 3) للآفاق التي ترتسم من بعده. لأننا في حركة «مواطنون ومواطنات في دولة»، لسنا في موقع المراقب والمحلل، بل نحن طرف في الساحة السياسية، وهدفنا واضح: بناء دولة مدنية ديموقراطية عادلة وقادرة، لأنها تمثل حاجة وظيفية ملحّة للدفاع عن المجتمع، ينطلق تشخيصنا من معاينتنا أن البلد في مرحلة انتقالية، بدأت بوادرها عام 2005 وتكرست عبر السنوات الخمس الأخيرة، من خلال سقوط الأطر الشكلية واحداً تلو الآخر لشبه الدولة التي قامت إثر الحرب الأهلية وعمادها ائتلاف الميليشيات والأموال الريعية برعاية حكم منتدب من الرعاة الخارجيين، وصولاً الى تعطل السلطات الإجرائية والتشريعية وحتى القضائية عن عملها الطبيعي، مع ما نتج عن ذلك من فراغات في المواقع وفي الشرعية، وما تم استيلاده من أعراف وصيغ أمر واقع جديدة، أبرزها ما تسمى «طاولة الحوار».
أين موقع الحدث المستجد من هذا التشخيص؟
الترتيب الخارجي
قيل كلام كثير عن أن الانتخاب «صناعة لبنانية». وبالفعل، لم تشرف المطابخ الخارجية على إنضاجه لتدعو كل الكتل المحلية لتناوله والتهليل له بالإجماع، كما حصل مع كل الانتخابات منذ 1989. لكن هذا لا يعني أنه صناعة لبنانية، لأنه لو كان كذلك لوجب إيجاد تفسير لتأخر حصوله حتى اليوم بعد سنتين ونصف سنة من موعده المفترض! ولوجب بتّ مسألة أساسية: هل حصوله ينذر بانتهاء المرحلة الانتقالية وباستقرار النظام السياسي، ووفق أيّ قواعد؟
لتوضيح المسار، لا بد من العودة إلى المرحلة التي سبقت، والتوقف عند حدثين شبه متزامنين، حصلا خلال صيف 2015، بينما كانت أزمة النفايات تحرك اللبنانيين في مواجهة أركان السلطة.
الحدث الأول إعلان «ورقة النوايا» بين «القوات اللبنانية» و «التيار الوطني الحر» في حزيران 2015، وهو حدث «لبناني»، أما الحدث الثاني فترشيح «كتلة المستقبل»، ومعها «أمل» و «الاشتراكي» وأطراف السلطة الآخرون، سليمان فرنجية، بترتيب إقليمي ودولي واضح، وإعلانه في تشرين الثاني 2015. هذا التطور يماثل الاتفاق على ترؤس تمام سلام للحكومة في نيسان 2013، ورضيت به «8 آذار»، لكونه يشكل حدّاً من الخسائر فيما كان الصراع في سوريا يميل لمصلحة المحور السعودي – التركي، وتجميداً للأوضاع عشية انتهاء ولاية ميشال سليمان وتعذر انتخاب رئيس. في المقابل، ترشيح سليمان فرنجية، وهو السياسي اللبناني الأقرب إلى بشار الأسد، كان بدوره تجميداً، أقله مؤقتاً، للساحة اللبنانية، رضيت به «14 آذار»، فيما مالت موازين القوى على الساحة السورية بعض الشيء لمصلحة المحور الإيراني ـ الروسي، وإلى أن تنجلي صورة الصراع الإقليمي النهائية.
إن انعطافات كهذه لا تحصل إلا بناءً على قراءات أمنية وسياسية خارجية وقرارات من الولايات المتحدة ودول أوروبية، قبلت بها كل من السعودية وسوريا (ولم تعارضها إيران) لأنهما اعتبرتا أن ما سوف تؤول إليه المواجهة الإقليمية لا سيما على الساحة السورية سينسحب على لبنان في جميع الأحوال، من ثم ينضم إليها أركان السلطة التقليديون جميعاً، لشدة ارتباطهم بأطراف الصراع الإقليميين، فيضعون الترتيبات التفصيلية التي تعنيهم انطلاقاً منها، من حكومة ونتائج الانتخابات وتوزيع المشاريع وما إلى ذلك من بنود جدول أعمالهم المعتاد.
انقلاب الترتيب الخارجي إلى نزاع داخلي
لكن الطباخين لم ينتبهوا إلى ما ولد اقتراحهم على الساحة الداخلية وإلى تفاعله مع تطوراتها. تخبط المرحلة الانتقالية وتقلّص الموارد المالية الخارجية كانا قد أصابا أركان السلطة بوهن شديد فضحته التحركات الشعبية من جهة ودفعاها، من جهة أخرى، إلى الغلوّ في الاستئثار بحصة أكبر من كعكة المنافع المتقلصة.
ولّد هذا الانعطاف، ولا سيما بسبب نتائجه الداخلية، امتعاضاً جدياً لدى الأطراف الطارئين على التركيبة السلطوية، ولا سيما «التيار» و «القوات»، فكانت ورقة «إعلان النوايا»، خطوة أولى عند ظهور بوادره، ولدى «حزب الله» أيضاً الذي أحرج بسبب الوعد الذي كان قد قطعه لميشال عون فيما يخوض أعنف المواجهات على الساحة السورية، ما يعطيه وزناً تجاه إيران يفوق وزن أي من الأطراف المحلية تجاه مرجعيتهم الإقليمية، وثقلا كبيرا على الساحة السورية وتجاه الرئيس بشار الأسد، وإنما أيضا يحتم عليه المحافظة على صدقيته تجاه جمهوره ومقاتليه.
ترشيح فرنجية نقل التلاقي بين «التيار» و «القوات» من حيز الرمزية السياسية الواضحة إلى حيز التحالف لأنهما استبعدا من الترتيب الناشئ، فيما ترسخ التطييف جعلهما يعتبران أن حصة «الموارنة» لا يمكن أن تجيّر لفرنجية نظرا لكونه شريكا في التركيبة التقليدية وطرفا غير حاسم ضمن الطائفة، فكان أن أعلن سمير جعجع تبنيه ترشيح عون في كانون الثاني 2016.
كل الفترة بين ذلك التبني والانتخاب الأخير كانت لازمة لتعديل الترتيب المقرّ في جزء يبقى تفصيليا من المنظار الخارجي: استبدال اسم ممثل الطرف المقابل للسعودية من فرنجية إلى ميشال عون، لكنه تعديل أساسي من المنظار الداخلي: لأنه يحل طرفا طارئا على التركيبة السلطوية محل طرف أصيل فيها. بذلك انتقل البحث من تناقض إقليمي كان قد حُلّ منذ سنة بتسوية إلى تناقض داخلي، ومن هنا الكلام عن «الله يستر» و «الخراب الآتي» إلخ، تهويلاً بالانزلاق الى العنف، والتشديد على «السلة» في مسعى من الأطراف الأصيلة في السلطة إلى إنهاء المرحلة الانتقالية بسرعة ولمصلحتها، تفاديا لأي «مجهول».
مجريات الانتخاب ودلالاتها
هذا التغير ألغى أسطورة 8 و14 آذار وظهّر اصطفافا شديد الوضوح بين من كانوا منذ مطلع التسعينيات في صلب السلطة السياسية، ونعموا بمغانمها في ما بينهم، وبين القوى التي كانت، طوعاً أو غصباً خارج جنة السلطة وهي تحاول جاهدة منذ 2005 الدخول اليها. وكنا قد عبرنا مراراً عن قناعتنا أن خط التماسّ ليس بين «أفكار» 8 آذار و «أفكار» 14 آذار، بل بين من يمسكون بمفاصل السلطة السياسية (نبيه بري، فؤاد السنيورة، وليد جنبلاط، ميشال المر، سليمان فرنجية، حزبا البعث والقومي..) وبين من، كلٌّ لأسبابه وظروفه (سعد الحريري، ميشال عون، سمير جعجع، حزب الله..)، كان خارجها وراح منذ 2005 يحاول تكريس مكانته في هذه السلطة.
ما بينته جلسة الانتخاب، تحت أعين اللبنانيين وكل السفراء الأجانب، يثبت أن التناقض الداخلي بين أطراف السلطة المخضرمين والطارئين، حتى ضمن الكتلة السياسية الواحدة (كما في «المستقبل»)، لا يقلّ حدة عن التناقض الإقليمي المنسحب على هذه الأطراف. اتخذت هذه الحدة شكلاً استهزائياً وقحاً بالمواطنين عموماً، وبالمواطنات تحديداً، يكفي وحده لتظهير عدم جدارة هذه المجموعة، إضافة إلى عدم شرعيتها (غدا الجزء الثاني والأخير: العهد الجديد: الفرص والمخاطر).
الأمين العام لحركة «مواطنون ومواطنات في دولة»