إثر انتهاء الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء اللبناني، استحوذ خلاف الوزيرين الياس بو صعب ورشيد درباس حول جمعيات المنفعة العامة على مساحات واسعة في وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي، تُرجمت عموماً اختلافات في الآراء مبنيّة على اصطفافات لا تمتّ الى الموضوعية بصلة.
في غمرة الأفراح وحرارة التهاني لخروج الوطن من نفق الشغور والانتقال التدريجي الى مرحلة استعادة مؤسساته الدستورية وتكريس حضورها الفاعل في شتى الميادين الحمائية والرعائية، إنقاذاً ومن ثمّ ارتقاءً بإنسانه المأزوم والمهموم والهارب من معاناة الى أخرى على مدار الساعة، فإنّ مِن أولى واجبات كلّ غيور التنبيه الى أهمية انتفاض العهد الجديد على أسلوب المقاربات التقليدية في الحكم المستمرة منذ ما قبل الإستقلال والمجافية لكلّ مصطلحات ومفاهيم ومعايير التحديث التي سبقنا اليها معظم دول العالم، والتي نعتقد جازمين بأنها منطلقات إلزامية وأساسية لكلّ إصلاح وتغيير، إن بنيوياً وهو الأساس، أم قطاعياً وهو الفرع المكمّل لزوماً.
فَلَو عدنا الى موضوع الجمعيات على سبيل المثال لوجدنا أنّ اوّل تعديل جوهري على القانون العثماني لعام ١٩٠٩ المتعلّق بإنشائها، كان من خلال التعميم الذي اصدره وزير الداخلية في أيار ٢٠٠٦ والذي اتَّسم بإيجابية إلغاء موجب طلب الترخيص لأيّ جمعية مستوفية الشروط الادارية العامة، مع الإبقاء على بعض الصلاحيات الشكلية لوزارة الداخلية (والشباب والرياضة في حالات محدودة) في المراقبة والتدقيق إثر نشر العلم والخبر في الجريدة الرسمية.
ومن دون التوقف عند الانتقادات ذات الطابع السياسي لهذا التعميم ولأسبابه، فإنّ اللافت فيه استناده في ديباجته الى عبارات غير مطابقة للموضوع شكلاً ومضموناً كمثل القول بالمنطلقات الديموقراطية وحرّية الجمعيات!
في حين كانت الدقة العلمية، والموضوعية القائمة على مقاربةٍ مفاهيمية حديثة تقتضيان بناء التعميم على موجبات تحفيز الأنشطة التفاعلية والتشاركية داخل المجتمع وبين أفراده في أطر محدّدة وشفافة، أهدافاً ووسائل وأساليب ونتائج، تتَّسم جميعها بطابع التطوّع المسكون بفرح المشاركة بالمسؤولية الاجتماعية.
والأمر نفسه ينسحب على المراسيم المتعلقة بالجمعيات الخيرية والجمعيات المعتبرة ذات منفعة عامة، التي أُنيطت مراقبتها بهيئة وطنية لا معايير علمية وموضوعية لاختيارها لكي تتمكن من مراقبة الجمعيات ذات الاختصاصات والاهداف المتعددة، علماً بأنّ المراقبة هذه ما لبثت أن أنيطت بوزارة الشؤون الاجتماعية (التي نرى فيها وزارة سيادية من منظور حقوق الانسان والمسؤولية المجتمعية لا من منظور المكاسب الشخصية والانتخابية التي يوفرها) المنشأة بالقانون 93/212 حيث لُحظ ضمن هيكلتها التنظيمية إنشاء «دائرة الجمعيات و المؤسسات ذات المنفعة العامة» التي لا نَدري كيف يمكنها بعديدها المتواضع وغير المشتمل على خبراء ضليعين بكلّ حقول الاختصاصات العلمية (الانسانية والصحيحة)،
أن تنهض بمسؤولياتها التي تبدأ مع مراقبة وضع المعايير الفنية والقواعد الإجرائية ودفاتر الشروط، مروراً بمواكبة الأنشطة الخيرية وأعمال المنفعة العامة بما في ذلك المعاينات الميدانية الدورية والفجائية، وانتهاءً بتقويم النتائج وفقاً للشروط المعيارية الوطنية والدولية بما في ذلك التدقيق المحاسبي (الداخلي والخارجي) والذي نكاد نقول بانعدامه في ضوء الآليات التنفيذية المعمول بها والموكلة الى وزارة الداخلية من خلال كشوفات الموازنة وقطع الحساب المفروضة على الجمعيات في الشهر الاول من كل سنة.
ولعلّ في شبه انعدام المراقبة المحاسبيّة هذا ما دفع العديد من الهيئات الدولية المانحة الى اشتراط إرفاق بيانات الجمعيات الممنوحة بتقارير محاسبية مدقّقة من خبراء محاسبة مجازين وعلى مسؤولية هؤلاء الأخيرين مع ما يشكّله ذلك من تجاوز للسيادة الوطنية من خلال تجاوز الوزارات والإدارات المعنية مباشرة ببرامج المساعدة الممنوحة.
بطبيعة الحال إنّ غايتنا ليست التجريح والإساءة بل النقد البنّاء وتسليط الضوء على معوقات تحقيق الجدوى الحقيقية من إنشاء العدد الأكبر من الجمعيات في لبنان.
وقد سبق أن جرت محاولات جدية وجيّدة لتحسين الأوضاع ولو جزئياً، من دون أن تلقى اهتماماً من المعنيّين لذرائع واهية يضيق المجال لذكرها، منها على سبيل المثال الاقتراح المقدّم من النائب ابراهيم كنعان الرامي الى تعديل بعض أحكام المرسوم الإشتراعي الرقم 87/77 لجهة تحسين الشروط المتوجبة توافرها لمنح صفة المنفعة العامة لكي تصبح أكثر تحديداً وأكثر فعالية، ومنها كذلك تقرير اللجنة الوزارية المشتركة المشكلة بالقرار 50/ 94 حول التسوّل والتشرّد وتسييب القاصرين، المرفوع الى رئاسة مجلس الوزراء متضمّناً مقترحات عملية لمواجهة هذه الظاهرة التي ما ازدادت إلّا تفاقماً وتحوّلاً الى شبكات إتجار بكلّ ما للكلمة من معنى.
ولئن ويكن من الثابت غياب أيّ مقاربة مفاهيمية حديثة لشؤون الخدمة العامة من حيث هي مسؤولية تشاركية مجتمعية، فإنّ المراقب يعجب كيف أنّ واضعي النصوص المتعلقة بالجمعيات إستفاضوا في توصيف الحالات الاستعراضية showoff لأنشطة الجمعيات المشمولة بالإعفاء من القيمة المُضافة ومن سائر الامتيازات والإعفاءات الأخرى، كما أنهم أَضفوا غموضاً على مصطلح «المنفعة العامة» بحيث يعجز المراقب عن التأكد ما إذا كان المقصود خدمة رديفة لخدمات القطاع العام secteur public أم خدمة مؤدّاة للعموم من ذوي الاحتياجات وسائر المنتفعين في إطار مساعدة القطاع العام توفيراً للجهد وللمال العام بمبادرة تطوّعية من هيئات مجتمع مدني ذات اهتمام ورغبة بتشبيك جهود القطاعَين العام والخاص لضمان تحقيق بعض أهداف القطاع الأوّل من متخصّصي القطاع الثاني، الأكثر تأهيلاً وتفرّغاً، مقابل إعفاءات مالية وضريبية هي نفسها الممنوحة للمؤسسات العامة.
إلّا أنّ الواقع الراهن أظهر وبكلّ أسف أنّ عشرات المؤسسات العامة المحقّقة فعلياً والمستفيدة من الأموال العمومية رواتبَ وتعويضات وإعفاءات، توقفت أو أوقفت عن أداء واجباتها الوظيفية، لتحلّ محلها جمعيات خيرية او معتبرة ذات منفعة عامة بصورة جزئية او كلية وبأشكال وذرائع متعدّدة مع ما يعنيه ذلك من هدر غير مبرّر (مقصود ام غير مقصود) للاموال العمومية.
والشواهد على ما نقول عديدة ليس آخرها ما هو حاصل على مستوى قضاء الأحداث في لبنان من إختلاف مؤسف بين كلّ من مصلحة الأحداث في وزارة العدل والاتحاد لحماية الأحداث، والذي نتج عنه تعاقد المصلحة مع جمعيات اخرى بمقتضى المرسوم ٢٨٣٢/٢٠٠٤ (المعدل بتاريخ ٢٠١٣) والذي يحتاج الى تعديل جديد ومُلحّ في كلّ ما يتصل بتجديد المعايير العامة والخاصة بتكليف الجمعيات بمهام متعلقة بإنفاذ القانون ٤٢٢/٢٠٠٢ لاسيما لجهة تحديث هذه المعايير والتشدّد في وضعها وفي مراقبة تطبيقها من حيث الكفاءات العلمية والخبرات المتوجّبة في العاملين لدى الجمعيات المتعاقدة!
* رئيس الأمانة الدائمة لمجلس الأمن الداخلي المركزي (سابقاً)