نيويورك والعالم على موعد سنوي في الخريف مع ثلاثة فصول متداخلة في الوقائع والطبائع، لا الطبيعة: شتاء سياسي صاخب، ربيع ديبلوماسي هادئ، وصيف أمني حار. والكل يأخذه سحر اللعبة الى علبة الكبريت الزجاجية على نهر هدسون، حيث الدورة الثالثة والسبعون للجمعية العمومية للأمم المتحدة. زحام ملوك وأمراء ورؤساء ووزراء وسفراء. تركيز على المواعيد في الكواليس. ومشاركة في موسم الخطابة من فوق أعلى منبر دولي، الكبار الذين يرتكبون أو يدعمون ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية يتلون المواعظ والمثل العليا من فوق المنبر. والصغار العاجزون عن حلّ أزماتهم الداخلية والشاكون من التلاعب الخارجي بها يقدمون وصفات الحلول للآخرين.
داعش لن يكون ابليس هذه الدورة بعدما تفاخر الكبار والصغار بأدوارهم في الحرب عليه وانهاء دولة خلافته في مساحات واسعة من العراق وسوريا وسيناء وليبيا. والسجالات في الشتاء السياسي الصاخب تبدأ بالصراعات التقليدية، وفي طليعتها الصراع العربي – الاسرائيلي، ولا تنتهي بتبادل التهديد بين أميركا وايران بعدما سحب الرئيس دونالد ترامب بلاده من الاتفاق النووي وأعاد فرض العقوبات على طهران. أما الربيع الديبلوماسي الهادئ، فان مواضيعه حاضرة ومكررة: المساواة بين الجنسين، المواثيق الدولية حول الهجرة واللاجئين، حماية البيئة، السلام، واصلاح المنظمة الدولية. ولا شيء يتغيّر عمليا. وأما الصيف الأمني الحار، فانه في بلدان عدة بينها سوريا والعراق واليمن وفلسطين ومصر وليبيا وبورما وأوكرانيا. ولا أحد يعرف متى وكيف وبماذا ينتهي.
كان الأمين العام الراحل داغ همرشولد يقول ان مهمة الأمم المتحدة ليست ايصال العالم الى الجنّة بل إنقاذه من الجحيم. لكن المسألة ليست نوع المهمة بل حقيقة القدرة على التنفيذ. وهذه متعلقة بقرارات الكبار المتحكمين بمجلس الأمن عبر الفيتو وبالعالم عبر العسكر والاقتصاد والمال. فإن اختلفوا صار مجلس الأمن مقبرة للقرارات، وان اتفقوا دفع الصغار الثمن وأولهم الضحايا. وأقصى ما حدث، حتى أيام الأمناء العامين الأقوياء والمحترمين مثل همرشولد، ليس انقاذ العالم من الجحيم بل تلطيف ظروف البقاء في الجحيم من خلال بعض المساعدات الانسانية والمبادرات السياسية ونشر مراقبين وقوات دولية.
ونحن اليوم في نظام عالمي سقط من دون أن يتبلور نظام عالمي جديد، بحيث نبدو كأننا في اللانظام. ومن الصعب، كما أكدت التجارب، ان يتخلّى الكبار عن امتيازاتهم لاصلاح مجلس الأمن. لكن كل شيء يعيد تذكيرنا بالقاعدة الذهبية: ما لا يُدرك كله ولا يُترك جلّه. وتصوّروا العالم وكوارثه من دون منظمة دولية.