بين حين وآخر، أتلقى في بريد الجريدة رسالة تعاتب على إهمال الشأن اللبناني. وعندما أكتب في ذلك، ألاحظ أن اهتمام القراء، في صورة عامة، كان باردا. لقد تعودوا أن لا شيء إيجابيا يصدر من لبنان. التعود، أو التبلد، هو أسوأ ما تصاب به القضايا. وكان العميد ريمون إده يقول إنه يجب أن يعرف الجيل الجديد أن بلاده كانت أفضل في زمن آبائه، لكي يتمكن من المقارنة.
رغم كل شيء.. كل شيء، ورغم الفراغ السياسي والخواء، تؤتى في لبنان أعمال وطنية مبهرة. الجيش يُظهر مقدرة رفيعة في مواجهة حركة اضطراب وسيعة. والأمن الداخلي يقوم بعمليات مبهرة. وشلة من الوزراء تتصرف مثل أيام «الفرسان الثلاثة»: نهاد المشنوق في الداخلية، ووائل أبو فاعور في الصحة، ورشيد درباس في الشؤون الاجتماعية، ومحمد المشنوق في البيئة.
كان الناس قد نسوا وجود الدولة، واعتادوا ذلك، سلموا بالأمر، لكن ما لبثوا أن رأوا أنه إذا توافرت «رائحة» حوار أو توافق، التقى لها فورا رجال دولة ومُخلصون. وبعد طول إهمال وتسلّط، تنبه الناس إلى مدى ما حل بالبلد من فساد وكساد وازدراء للقانون. فصار الغاشم لا يرضى في الخلاف بأقل من القتل، لأنه يضمن الملجأ عند من هم مثله ومن طينته، أو أكثر رداءة.
أشرف نهاد المشنوق بنفسه على اقتحام قوى الأمن لـ«سجن رومية»، الذي يحكمه الموقوفون منذ 2009 بالقوة والتهديد. وتفقد بنفسه ضحايا انفجاري «جبل محسن» في طرابلس، بعد قليل من وقوعهما. وتولى بنفسه الإشراف على البحث عن متهم فاجر بقتل شاب على خلاف بسيط في ملهى، كما كان يحدث في عصر الكاوبويات، قانون المسدس الأسرع.
يبدو أننا عندما نعطى الفرصة، لسنا أسوأ الرعايا، ولا أسوأ المسؤولين، ولا أيضا أسوأ المختلفين. كان يعوزنا دائما التوافق الداخلي، ووقف التزكية الخارجية لعناصر الفرقة. وعندما يتوافر الحد الأدنى من هذا وذاك، تظهر كفاءة اللبناني، ويظهر حسن خلقه وطيب سريرته. والحكومة الحالية ثقيلة الأحمال. فالبحيرة اللبنانية ليست معزولة عن البحر الشامي في سوريا والعراق وفلسطين. ولم تستطع سياسة «النأي بالنفس»، التي أعلنتها حكومة نجيب ميقاتي، الصمود أمام تداخل الجانبين. ونعتذر للدكتور فيصل القاسم الذي لا يكف عن التغريد ضد الجيش اللبناني بألفاظ بالغة القسوة والحدة. لكن الجيش في هذه المعمعة المحزنة هو أفضل ما نملك، وأيضا أعز ما نملك. وإذا اضطره الأمر «للتغريد» عليه مرة أخرى، فنأمل من صاحب «الاتجاه المعاكس» اختيار تعابير أقل قسوة على لغة النقد والاعتراض.
أعتقد أنه لم يعد في لبنان أشياء تستحق أن يُدافعَ عنها. لكن الخطوط البيضاء في حلكة الأيام الأخيرة، شيء يستحق الاعتزاز.