مِن المعجزات التي حقّقتها أزمة «الاستقالة» أنّها قلبَت مزاجَ القوى النافذة في السلطة إزاء الانتخابات النيابية المقرّرة في أيار 2018. فبعدما كانت تُحضِّر للتمديد الرابع بدمٍ بارد، باتت اليوم تدرس جدّياً فوائد إجراء الانتخابات في أقربِ فرصة ممكنة. أليس مستغرَباً أن يوضَع ملفّ الانتخابات المبكرة بنداً أساسياً في مشاوراتٍ كان هدفُها الوحيد معالجةَ الإشكاليةِ السعوديةِ المنشَأ، أي «النأي بالنفس»؟
إذا سارت الأمور وفق ما يشتهي «تحالف الرابحين» من أزمة «الاستقالة»، فإنّ الضربة السياسية المقبلة ستكون إجراء انتخابات نيابية مبكرة «تضرب الحديد وهو حامٍ» وتكرِّس الأرباح، قبل أن يطرأ عامل جديد يمكن أن يقلِّصَها. ولذلك، هناك اتجاه إلى حسمِ ملف الانتخابات سريعاً، في موازاة حسمِ ملف «الاستقالة».
1 – الرئيس سعد الحريري تُعبِّر أوساطه، للمرّة الأولى، عن ارتياح حقيقي الى الانتخابات، بعدما ساد القلق طوال عامٍ مضى. ومعلوم أنّ تطيير الانتخابات الفرعية في طرابلس وكسروان جاء نتيجة إرباك قوى عدّة، ولا سيّما منها تيار «المستقبل» و«التيار الوطني الحر» اللذين كانا يحتاجان إلى مزيد مِن الوقت لتحضير معركة ناجحة ضدّ الخصوم وداخل أهل البيت.
لقد جاءت أزمة الاستقالة بمفاعيل معاكسة لمصالح القوى التي شجّعت عليها. فالتعاطف السنّي مع الحريري، الذي ترجَمه الحشدُ في «بيت الوسط»، عوَّضَه الخسائرَ التي تنامت خلال وجوده في المنفى لسنوات. وفي اعتقاد «المستقبليّين» أنّهم اليوم في أفضل ظرفٍ لمنازلةِ خصومهم في الانتخابات، وأنّ موجة التعاطفِ هذه ربّما تتراجع تدريجاً بفِعل عوامل متداخلة.
2 – «التيار الوطني الحر» هو أيضاً يريد قطفَ ثمارِ الأزمة. وفي تقدير أوساطه أنّ اللحظة تتيح تقاطعاً نادراً يَمنحه أفضلَ الفرص لخوضِ انتخابات ناجحة. ففي موازاة التحالفِ الثابت مع «حزب الله»، تحسّنَت علاقة «التيار» بالرئيس نبيه بري.
وفي المقابل تدهورَت علاقة الحريري بـ«القوات اللبنانية» والمستقلّين من «14 آذار» وتقدَّمت أشواطاً مع «التيار»، ما يَعني أنّ الحريري ربّما يكون اليوم أكثرَ استعداداً لترجيح التحالف انتخابياً مع «التيار» لا مع «القوات».
ولكن لا شيء يَضمن استمرار هذا المعطى إذا ابتعَد موعد الانتخابات لأشهر، لأنّ التداخلات المحلية والخارجية قد تعيد التحامَ الحريري و»القوات» وابتعادَه عن «حزب الله» وحلفائه. ولذلك، بات «التيار» مقتنعاً بإجراء الانتخابات قريباً لقطفِ الثمار قبل أن يصيبَها الاهتراء وتقعَ على الأرض.
3 – لا يهتمّ «حزب الله» وبرّي بمسألة تقديم الانتخابات أو تأخيرها، على المستوى الشيعي، لأنّ تمثيل الطائفة محصور بهما، باستثناء خروقات طفيفة قد تقع هنا أو هناك، لا مفاعيل سياسية لها. لكنّ «الحزب» يخوض معركة الطوائف الأخرى. فهو يَعمل لغالبيةٍ راجحة في المجلس المقبل، تضمّ الحلفاء المسيحيين والسنّة.
والأرباح التي يسجّلها الحريري – بالطبعة الماشية بالتسوية الحالية – تصبّ عملياً في خانة أرباح «الحزب» أيضاً. وأمّا أرباح عون وسائر الحلفاء المسيحيين فهي بالتأكيد جزءٌ مِن مخزون «الحزب» الاستراتيجي في المجلس المقبل.
لكنّ ذلك لا يعني أنّ «حزب الله» سيتخلّى عن «أحصنتِه» السنّية القديمة في بيروت وطرابلس وصيدا والبقاع الغربي. فليس من عاداته أن يبيعَ الحلفاء القدامى، المخلِصين له، ليشتريَ سواهم. وفي الانتخابات، هناك أمكنةٌ تتّسع للحريري ولهؤلاء على حدٍّ سواء.
4 – النائب وليد جنبلاط سيَقطف ثمارَ موقفِه المتوازن خلال الأزمة، وسيَحظى في الانتخابات المقبلة بتحالفٍ يسعى إليه مسيحياً وسنّياً وشيعياً. وهو كان سبّاقاً في أداءِ دورِه التسووي- الذي يريده «حزب الله»، قبل أزمة الاستقالة، عندما جاء بالحريري إلى منزله في كليمنصو ليلتقيَ رئيس المجلس ويتوافقا على الخطوات السياسية المقبلة.
لقد سَقطت معظمُ المبرّرات التي كانت تُخبّئها القوى النافذة لتطيير انتخابات أيار. في المقابل، طبيعيّ أن تكون القوى التي أصيبَت بنكسةٍ في الأزمة الأخيرة هي الراغبة اليوم في عدمِ استعجال الانتخابات، لأنّها تُراهن على الوقتِ لزوال الغيمة وعودةِ التحالفات إلى ما كانت عليه.
لقد ساد اعتقاد بأنّ الرغبة في تأجيل انتخابات أيار 2018 تحمل رغبةً مبطّنة في ضبطِ ساعتها على ساعة انتخاب الرئيس المقبل للجمهورية.
فالمجلس المقبل ستنتهي ولايته في أيار 2022. فيما الرئيس عون تنتهي ولايته في نهاية تشرين الأوّل 2022، ما يعني أنّ المجلس التالي هو الذي سينتخب الرئيس الخلف.
ولذلك، كان هناك تفكيرٌ في التمديد للمجلس الحالي بضعة أشهرٍ لكي يستطيع المجلس الجديد أن ينتخب خلَف الرئيس عون، فيكون مضموناً وجود رئيس حليف لـ»حزب الله» 6 سنوات أخرى. ولكن، إذا كان «حزب الله» قادراً اليوم على تحقيق انتصار استراتيجي بانتخاب مجلس نيابي يتمتّع فيه بغالبية مريحة، فلماذا المغامَرة بالانتظار والتأجيل؟
في هذا المعنى، ربّما تتوافق القوى الأربع النافذة في السلطة اليوم على انتخابات مبكرة. وإذا اكتملَ التوافق السياسي، يصبح سهلاً تدبير الغطاء الدستوري والقانوني لجهةِ مراعاة المهلِ والبطاقة وإجراء التعديلات الممكنة على قانون الانتخاب.
ومِن الأفكار المتداوَلة إجراءُ الانتخابات بقانون 1960 مرّةً أخرى وأخيرة… إذا تعذّرَ تطبيق القانون الساري المفعول. لكنّ عون يتجنّب هذا الخيار كلّياً لأنه سيكون نكسةً معنوية لعهدِه.
إذاً، هل يقوم «تحالف الرابحين» بتدبير انتخابات نيابية سريعة يَجري فيها عزلُ القوى الرافضة لمسار التسوية أو معاقبتُها، وهذا العزل قد تدوم مفاعيله لسنوات؟ وإذا حدثَ ذلك، فما هي مدلولاته السياسية؟