نذكر جميعاً غاري كاسباروف كبطل عالمي للشطرنج، تربّع على عرش هذه اللعبة عشرين سنة (من فوزه على اناتولي كاربوف سنة 1985 حتى تقاعده سنة 2005). غير أن كاسباروف هو الآن احد ابرز الوجوه السياسية الروسية المعارضة لحكم فلاديمير بوتين، وأشدها انتقاداً لأسلوبه الدكتاتوري في الحكم، وتدخله في شؤون الدول المجاورة، وتلك التي هي أبعد من المجاورة. حتى أن هناك في الغرب من يقارن كاسباروف بأحد اشهر كتاب روسيا، الكسندر سولجنتسين، الذي عرف بانتقاده لأعمال الاعتقال والتعذيب والقتل التي كانت تمارسها الاستخبارات السوفياتية البائدة (الكا جي بي). وفاز بجائزة نوبل للآداب عن روايته الرائعة «ارخبيل الغولاغ». وعلى رغم ما في هذه المقارنة من مبالغة، فان مقارنة ما كان عليه الاتحاد السوفياتي بالأمس بما يجري في روسيا اليوم لا تخلو من دلالات.
كتاب كاسباروف الأخير «الشتاء قادم» الذي صدر هذا الأسبوع، هو استعراض انتقادي للمرحلة التي تعيشها روسيا اليوم، في ظل بوتين، في السياسة والاقتصاد والأوضاع الاجتماعية. والعنوان بالغ الإيحاء في إشارته إلى المستقبل الذي يتوقعه كاسباروف لبلاده، التي هرب منها إلى الولايات المتحدة، خوفاً من المصير الذي يلاحق معارضي الرئيس الروسي أو الذين ينتقدون أسلوبه المتفرد في الحكم، وأبرزهم الكسندر ليتفيننكو، الذي لاحقته يد بوتين إلى لندن، حيث تم اغتياله بالسم في عام 2006، وآخرهم بوريس نيمتسوف، الذي كان نائباً لرئيس الوزراء في زمن بوريس يلتسين، واختلف مع بوتين، بعد انتقاده عملية غزو شبه جزيرة القرم وضمها إلى روسيا، وكان مصيره الاغتيال فوق احد الجسور القريبة من الساحة الحمراء والكرملين، في شهر شباط (فبراير) الماضي. وبالطبع، وكما مع تسمّم ليتفيننكو، أنكرت الأجهزة الروسية التي تتلقى أوامرها مباشرة من بوتين، أي معرفة أو مسؤولية عن الاغتيال، بل هي أعلنت نيتها التحقيق وملاحقة المسؤولين!
يقول كاسباروف انه اختار إصدار كتابه في هذا الوقت ليرافق حملات الانتخابات التمهيدية بين المرشحين للرئاسة الأميركية التي ستجري العام المقبل. فهو يرى أن هناك مسؤولية يجب أن يتحملها الرئيس الأميركي المقبل لمواجهة بوتين، بعد استنكاف باراك أوباما وخذلانه للأصوات الليبرالية في روسيا، التي كانت تحلم بمصير آخر لبلدها، غير هذا «الشتاء» الذي ينتظرها على يد بوتين. كاسباروف يعتبر انه بقدر ما تتحمل الأجهزة الروسية المسؤولية عن صعود رئيسها الحالي، التي استخدم كل أساليب الخداع والترهيب واستغلال المشاعر القومية، فان الدول الغربية، والولايات المتحدة تحديداً، هي أيضاً شريكة في المسؤولية. ويلقي المسؤولية على جورج بوش الأب وبيل كلينتون، وصولاً إلى جورج بوش الابن وأوباما، وكلهم تساهلوا في رأيه مع استمرار الشيوعيين في حكم روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. اذ على عكس ما حصل في دول أوروبا الشرقية. اختار الغرب التعامل مع روسيا بلامبالاة بمصير شعبها، وجهل بتطوراتها الداخلية والصراعات القائمة بين تياراتها السياسية، وبحسن نية مع قادتها لم يكن في محله.
هكذا استطاع بوتين أن يلعب أوراقه بذكاء، معتمداً الحيلة حيناً والاستفادة من الفرص للهجوم أحياناً أخرى، وهو ما فعله في أوكرانيا، مستغلاً صراعاتها الداخلية لقضم أجزاء من مناطقها الشرقية، أو كما يفعل الآن في سورية، حيث عمل على تعطيل أي توافق سياسي دولي لإنهاء الأزمة فيها، إلى أن أتاحت له الفرصة أن يتدخل عسكرياً، فارضاً روسيا كطرف في الحل، فيما هي شريكة في المسؤولية عن استمرار الحرب، لا تقل هذه المسؤولية عن تلك التي تتحملها إيران ونظام بشار الأسد.
لا يتوقع كاسباروف أن ينجح بوتين في تحقيق أحلامه واستعادة الأمجاد القيصرية، مهما حاول توظيف الكنيسة الأرثوذكسية أو مشاعر العداء للغرب لخدمة طموحاته. فهو يرى انه لا بد من انتفاضة شعبية مع انهيار مستوى معيشة الطبقة المتوسطة. فحتى مع سعر برميل النفط في حدود 50 دولاراً، لن يستطيع الاقتصاد الروسي أن يصمد اكثر من سنة ونصف السنة في أحسن الحالات بسبب فقدان السيولة.
لفهم شخصية بوتين، لا يحتاج المرء في نظر كاسباروف إلى العودة إلى كارل ماركس أو النظريات الانتهازية لماكيافيلي. يكفي كتاب «العراب» لماريو بوزو، حيث صورة شخصية «دون كورليوني» التي تجسد أسلوب بوتين: خيانات واغتيالات وجرائم وجواسيس، ومخططات سرية ضد الحلفاء والخصوم.