خضع اللبنانيون منذ أكثر من عقدين من الزمن، لاحتلال فكري قام على مبدأ أنّ هامش الاعتراض على الأمر الواقع مسموح لكن بشرط أن يبقى ضمن إطار “المقبول”.
فكما يُحدّد “مجلس صيانة الدستور” في إيران مَن يحقّ له ومن لا يحق له الترشّح للرئاسة، ثم تجرى “انتخابات” يتنافس من خلالها المرشحون المُرضى عنهم من المرشد الأعلى، كذلك أمسى النقاش السياسي في لبنان صخباً وجدلاً وصراخاً أحياناً، ولكن معظمه – إن لم يكن كلّه – محصور بإطار احترام “المحرّمات”. هذه المحرّمات فُرضت بالقتل تارة، وبالترهيب طوراً، حتى أصبحت الأغلبيّة العظمى من اللبنانيين، بالسياسة والإعلام وحتى في غرف المنازل، تمارس “الرقابة الذاتية”. أمست مثلما درج الروس على القول أيام الاتحاد السوفياتي (بتصرّف): ليست الدولة البوليسيّة هي تلك التي تقمع كل الناس كل الوقت، بل الدولة التي يعتقد كل الناس كل الوقت أنّها ستقمعهم.
أبرز تجليّات تلك النظرية البائسة حلّت علينا منذ سنة. أي منذ بدء الحرب بين “حزب الله” وإسرائيل (وليس بين لبنان وإسرائيل كما تفرض النظرية). عاد بنا الزمن الى أحمد سعيد و”راديو القاهرة” قبيل حرب 1967، على قاعدة “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”. مصطلحات وتعابير من صنف: إنجازات المجاهدين لا تُعد ولا تحصى (على الأقل الجيش المصري كان جيشاً شرعياً). نحن على قاب قوسين أو أدنى من النصر. بانتظار اللحظة الحاسمة – القريبة جداً (بحسب أمين عام “حزب الله” الجديد). لا مكان لإضعاف “معنويات الأمّة” بحسب مادة قانونية بالية استذكرها بعض القانونيين أخيراً. التعبيران الوحيدان المتاحان أمامنا اليوم هما: “التضامن الوطني” أو “الوحدة الوطنية”، وهما التعبيران الحركيان لمفهوم خضوع أغلبيّة اللبنانيين لسلطة الميليشيا و سطوتها.
التضامن لا يكون فقط مع “البيئة” (وهو ما عبّرت عنه الأغلبيّة الساحقة من اللبنانيين)، بل أيضاً مع الحزب ومجاهديه، حتى لو كان هؤلاء المجاهدون أنفسهم هم من اجتاحوا واغتالوا في الداخل اللبناني. وجب وضع “الخلافات السياسية الداخليّة” جانباً، ولو أنّ لا خلافات “سياسية” أو “داخليّة” مع الحزب (ليس للحزب مشروع سياسي داخلي أصلاً). هذه هي القواعد الوطنية. تبدو وكأنها مستوحاة من كتاب جورج أوريل (1984) الذي يروي قصّة القائد “الأخ الأكبر” وذراعيه “شرطة الفكر” و”وزارة الحقيقة”، اللتين عبرهما يُغيّر كل المفاهيم ويُلزم الجميع بها… ولو كانت غير مفهومة وغير منطقية. اخترع “الأخ الأكبر” لغة جديدة، أو newspeak يمكن للناس التفكير والتعبير من خلال مفرداتها فقط… وكل ما دون ذلك خيانة وجرائم فكرية.
طبعاً يمكن لـ”العقلاء” (تعبير آخر للذميين السياسيين) توجيه ملاحظة تكتيكيّة لقيادة الحزب المتنوّرة، ولكن بعد الانتهاء من فحص الدم الروتيني، إذ عليهم (إعادة) الإقرار بـ”المسلّمات” التالية: إسرائيل هي التي تعتدي على لبنان، كما تستهدف المدنيين لا العسكريين (طبعا لا عسكريين بين المدنيين)، يجب مناداتها دون غيرها بـ”العدو” (العدو الإيراني ثقيلة على السمع)، لها أطماع تاريخيّة بأرض لبنان (ومياهه طبعاً)، لطالما خرقت السيادة اللبنانيّة تاريخياً (من دون أيّ مسببات)، ضحايا الحزب العسكريون “شهداء” يدافعون عن لبنان، الحزب “حرّر الجنوب” في العام 2000، اليوم من حقّ لبنان تحرير “مزارع شبعا المحتلة” (وتلال كفرشوبا طبعاً) إلى ما لا نهاية. السلام خارج النقاش أصلاً، فلا ضرورة للتعبير حتى عن رفضه، مع أنّ الدولة اللبنانيّة (بمعظم قياداتها الحاليّة) فاوضت الإسرائيلي على “السلام العادل والشامل” تحت إشراف سوري في مفاوضات مدريد عام 1991. إذا تجاوز اللبناني الفحص، يمكن عندها أن يسأل أيّ من الأسئلة “الشرعية”، وأبرزها يتعلّق بإمكانية الاتفاق، بعد الحرب طبعاً، على “استراتيجيّة دفاعية” تحمي لبنان.
مهام “وزارة الحقيّقة” اللبنانيّة تلك (وزارة “حزب الله”)، لا تقتصر طبعاً على موجبات الصراع مع إسرائيل. هناك مسلّمات “داخلية” أيضاً، لا يمكن تجاوزها وإلا تعرّض “السلم الأهلي” للخطر (يتعرّض هو وحده، من دون أن يُطلق مسلّح عليه أيّ طلقة). فعلينا الحذر دائماً من “الفتنة”، وكأنّها فكرة قائمة بذاتها تُحرّكها الظروف. الدستور “مقدّس”، لكنّه بحاجة إلى تعديلات، حسب مزاج “وزارة الحقيقة”. في كلا الحالتين لا مجال للنقاش. لبنان ديموقراطيّة توافقية (التعبير نفسه لا يعني شيئاً خارج النص – العرف الدستوري)، ولذلك لا رئيس انتُخب منذ سنتين. اقتصاد لبنان هو اقتصاد “ريعيّ”، وعلينا ان نصنّع أكثر (سلعاً مادية جديدة نمسكها باليد وليس اقتصادَ معرفة مثلاً) ونزرع أكثر، فالاستيراد مصيبة. النظام “الطائفي” أساس كل البلاء في لبنان منذ العام 1943. طبعاً وقبل كل هذا، نبيه برّي ضمانة “السلم الأهلي” و”التعايش” و”استقرار المؤسسات”، ولا شكّ أنّه يسعى اليوم إلى إنقاذ طائفته ووطنه. الفدراليّة حرام شرعاً، بكل أشكالها (وهي أربعة)… ولو أنّ حزباً لبنانياً أقام نظاماً كونفدرالياً مكتمل الأوصاف. من ضمن هذه المسلّمات (غير الدستوريّة)، النقاش مفيد، بل مرحّب به. أما خارجها، فالإعلام “فتنة”.
طموحي الشخصي كفرد في جيش “نداء الوطن” (بالإذن من أقوال السيد حسن نصرالله) أن نُسهم، جميعاً كفريق عمل، بدفن كل هذه المفاهيم، ومعها هذا الــ “لبنان” الذي وصلنا إليه اليوم بفضل المؤتمنين عليه من أعضاء منظومة المافيا و الميليشيا.
ليس لدينا اليوم تَرَف “التسوية”، أو المسايرة على الطريقة اللبنانيّة، أو التأقلم مع “الواقع”، لأنّ هذا الواقع الحالي أساسه بلد ننظر اليه يحترق وسيغرق (من دون البارجة الاسرائيليّة). فقبل التحرير يكون التحرّر، عبر “صفحات” هذه الصحيفة، من سطوة “وزارة الحقيقة” اللبنانيّة علينا، إعلاميين ناشطين ومفكّرين، ومن بعدها إعادة بلورة مفاهيم حديثة وعلميّة وموضوعيّة، تليق بالقرن الواحد والعشرين، وتأخذنا إلى حيث نريد: نداء يعلو فوق نداء المعركة.