مع انتهاء موسم المهرجانات ومباشرة دوائر بعبدا التحضيرات اللوجستية لعملية انتقال رئيس الجمهورية ميشال عون إلى المقر الرئاسي الصيفي في قصر بيت الدين، تبدو كل الدروب مقفلة أمام مساعي تبريد أزمة الجبل بعدما أعلن رئيس مجلس النواب نبيه بري إطفاء محركاته لاقتناعه بعبثية ما يحصل من “توتير وتصعيد” مقابل تشديده صراحةً على وجوب النأي بحادثة البساتين عن مجلس الوزراء. فخريطة المواقف الداخلية باتت واضحة المعالم بين متخندق خلف “صلحة” بري بمؤازرة من رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري الذي عاد مساءً إلى بيروت، ومن “القوات اللبنانية” التي عبّرت بوضوح أمس على لسان النائبة ستريدا جعجع عن تموضع معراب إلى يمين “عين التينة” تأييداً “للموقف الوطني والمسؤول للرئيس بري” إزاء سبل معالجة الأزمة، وبين فريق متمترس في المقابل خلف وجهة نظر “العهد” في التصعيد السياسي والقضائي بمواجهة زعيم “المختارة”، لكن الجديد خلال الساعات الأخيرة تجسد بدخول “قبرشمون” بقوة أمس، على خريطة علاقات لبنان الدولية في ظل العجز اللبناني عن لملمة ذيولها وفصل تداعياتها عن مسيرة استنهاض البلد واقتصاده.
وفي هذا الإطار، استرعى الانتباه أمس بيان السفارة الأميركية الداعي إلى رفض “أي محاولة لاستغلال الحادث المأسوي في قبرشمون بهدف تعزيز أهداف سياسية”، معربةً عن توقع واشنطن من السلطات اللبنانية أن تتعامل مع هذا الملف “بطريقة تحقق العدالة من دون تأجيج نعرات طائفية ومناطقية بخلفيات سياسية”. في حين كان للندن أيضاً موقف متقاطع في أهدافه وضعت من خلاله “استقرار لبنان” في سلم أولوياتها داعيةً جميع الأفرقاء إلى “التركيز في هذه المرحلة على التطور الاقتصادي”، حسبما عبرّ السفير البريطاني كريس رامبلنغ إثر لقائه بري.
ومقابل اتساع رقعة الاصطفاف المحلي والدولي الداعم لوجهة نظر “عين التينة” إزاء سبل معالجة قضية “قبرشمون” خارج قاعة مجلس الوزراء، اشتعلت جبهة الردود على بيان السفارة الأميركية بدءاً من وئام وهاب مروراً بإعلام “حزب الله” وصولاً إلى الوزير جبران باسيل. فبالتوازي مع صبّ إعلام “الحزب”، المرئي والإلكتروني، جام غضبه على الولايات المتحدة سواء عبر قناة “المنار” أم موقع “العهد”، سرعان ما خرج باسيل عبر منصة 7 آب في الضبية ليلاقي حملة 8 آذار في الهجوم على الأميركيين، لاعتباره بيان السفارة الأميركية أتى بمثابة تدخل “الاستخبارات والسفارات” لمصلحة من وصفهم بـ”الميليشيات المرتبطة بالخارج”. وإلى الداخل، تطايرت شظايا مواقف رئيس “التيار الوطني الحر” في أكثر من اتجاه لتصيب جملة من أهداف “العهد”، انطلاقاً من جنبلاط مع محاولته إعادة بوصلة المشكلة إلى درزية – درزية، مروراً بإعادة تسعير الخلاف على الدستور من بوابة “المادة 95” التي ربط تفسيرها بوجوب تحقيق المناصفة في كل فئات موظفي الدولة، حتى قيام ساعة الدولة المدنية بلامركزية مالية وإدارية موسعة، وصولاً إلى التصويب بشكل مباشر على حزب “القوات” ورئيسه سمير جعجع، الذي اتهمه بأنه سبب إنهاء اتفاق معراب وبأنه يحارب العهد العوني ويعرقل الحلول التي يقترحها وزراء “التيار” في الحكومة ويواصل سياسة “الافتراء وترويج الشائعات” ضد العهد، مقابل إعطاء جعجع “فرصة أخيرة” للعودة إلى روحية اتفاق معراب “إذا تعهدوا بوقف حملات الكذب وإلا سيضطروننا إلى الكشف عن الفاسد الحقيقي والقاتل الحقيقي”، بحسب التهديد الذي وجهه باسيل في سياق تصعيدي متصاعد يؤسس لمزيد من تأزيم العلاقات المسيحية – المسيحية على الساحة السياسية.
توازياً وبينما الوضع الاقتصادي يتجه نحو مزيد من الترنّح في ظل الشلل الحكومي الذي يهدد مصير مؤتمر “سيدر” وينعكس سلباً على رؤية المؤسسات الدولية المعنية بتصنيف لبنان الائتماني، توافرت لـ”نداء الوطن” معطيات تفيد بتحرك حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في اتجاه أكثر من عاصمة عربية ودولية في محاولة منه لاستدراك أي “خطر ممكن” خصوصاً على الوضع النقدي.
وفي المعلومات أن سلامة شرح للمسؤولين العرب والأجانب الذين تواصل معهم الواقع الراهن، متمنياً عليهم الوقوف إلى جانب لبنان في هذه المرحلة المصيرية وايجاد السبل الكفيلة بإيجاد معالجات تقنية مالية بمعزل عن الأزمات السياسية الداخلية والخارجية.
وعلى الرغم من تداخل الوضعين السياسي والاقتصادي، فقد لمس حاكم مصرف لبنان بعض الفرص لمخارج محددة ومحدودة في ظل الاستياء العربي والدولي من سياسات الحكومة اللبنانية وخلافات مكوناتها. حتى أنّ المعطيات المتواترة في هذا المجال تشي بأنّ بعض الدول العربية تدرس إمكان إيداع مصرف لبنان مبالغ مالية “مهمة”، لكنها تبدي في الوقت عينه تحفظات معينة وتتريث في حسم توجهاتها الداعمة للخزينة اللبنانية، بانتظار تأمين “البيئة الحاضنة الآمنة” عبر مزيد من الدراسات التي تتعلق بكيفية الأخذ في الاعتبار العقوبات العربية والدولية المفروضة على “حزب الله”، والتأكد من أنّ أي استثمار في لبنان لا يمكن أن يستفيد منه “الحزب” وداعموه لا في شكل مباشر ولا من خلال استغلاله للالتفاف على العقوبات الدولية على “حزب الله” وإيران، وسط تردد أنباء عن بحث جدي في إمكان عقد مؤتمر لتشجيع القطاع الخاص والمستثمرين العرب الذين يتمتعون بعلاقات وطيدة بحكومات دولهم، على الاستثمار في بعض المشاريع التي يمكن أن توفر فرص عمل تساعد لبنان على مواجهة الصعوبات الاقتصادية التي يعاني منها.