“صندوق النقد” غير واثق من ترجمة أرقام “2020”
اليوم يصدر عن مصرف لبنان تعميم يتعلق بتمويل الدواء والمحروقات والقمح وحماية هذه القطاعات من تقلّبات الدولار. للوهلة الأولى الطرح قد يلاقي ترحيباً من قبل البعض كونه يحاول امتصاص غضب الشارع وقلقه على قوت يومه وعلى قدرته الشرائية، التي تتداعى على وقع تنامي نزيف عجزَي الخزينة وميزان المدفوعات. لكن يبقى أنّ هذا النوع من الحلول الجزئية ليس مستداماً بل يشكل خروجاً واضحاً عن قواعد النظام الإقتصادي الحر وقيمه المؤسسة، لا سيما تأمين “العدالة” ما بين فرقاء الإنتاج. فعلى أرض الواقع يقود هذا التدبير عملياً إلى التمييز ما بين قطاعات الإنتاج لناحية تفضيل قطاع على آخر، وتاجر على آخر، ومستثمر على آخر وعامل على آخر… وللتذكير، فإن هذا النوع من الوسائل المستحدثة لضبط عجز ميزان المدفوعات ليست مستجداً، إنما غالباً ما كانت تلجأ إليه أنظمة الإقتصاد الموجّه، والأمثلة كثيرة على ذلك في منطقتنا العربية وفي دول العالم الثالث لا سيما في منتصف القرن الماضي. هي أدوات يتجه إليها لبنان، بينما هي نفسها تتجه إلى الانحسار في العالم لأنها أثبتت فشلها. الحلول المطلوبة هي تلك التي أثبتت نجاحها في العالم حتى أصبحت اليوم قواعد الحوكمة الجيّدة والمستدامة بعيداً من سياسة “الترقيع”. الحل ببساطة يكمن في ترشيق القطاع العام عبر ترشيد إنفاقه وتحفيز القطاعات الإنتاجية، كل القطاعات الإنتاجية، من دون تمييز ولا تفضيل بين قطاع “بسمنة” وقطاع “بزيت”.
إذاً بعدما بلغت أزمة الدولار مداها مع تسجيل سعر الصرف في الأسواق الـ1600 ليرة لبنانية، عاد السوق ليهدّئ من روعه ومن عملية ترويع المواطنين، فاستكان المشهد المالي عشية التعميم المرتقب من المصرف المركزي والذي، بحسب معلومات “نداء الوطن”، سيعمل على تكوين هامش نقدي للمستوردين في قطاعات النفط والقمح والدواء، بحيث سيصار إلى تسهيل فتح اعتمادات لهم في المصرف مع احتساب سعر صرف الدولار بالقيمة المحددة من قبل المركزي، على أن يكون تسليم الدولارات مرتبطاً بتاريخ استحقاق الاعتماد إلى الخارج.
وكان حاكم مصرف لبنان رياض سلامة قد طمأن من قصر بعبدا أمس إلى أنّ المركزي “يؤمّن حاجات القطاعين العام والخاص بالعملات الأجنبية، وسيستمر في ذلك وفقاً للأسعار الثابتة”، معرباً عن ثقته إثر لقاء رئيس الجمهورية ميشال عون بأنّ التعميم الذي سيصدر اليوم “سيخفّف حكماً الضغط على طلب الدولار لدى الصيارفة”. وعن مجريات اللقاء، علمت “نداء الوطن” أنّ أجواءه كانت “ودية ومسؤولة”، حتى أنّ عون في نهاية لقائه سلامة على مدى ساعة كاملة “شدّ على يده ودعاه إلى السهر على النقد الوطني، لأنه بجهود الحاكم تمكّن لبنان من اجتياز أكثر من قطوع نقدي، كان أخطرها إبان العدوان الاسرائيلي في العام 2006 وبعد انتهاء الحرب، يوم تمكن رياض سلامة من تأمين الغطاء لعملية الإيواء وإعادة الإعمار، ولم يلتفت للضغوط الخارجية التي مورست عليه”.
ووفق المعطيات، فإنّ ما تم الاتفاق عليه بين عون والحاكم يتلخص بقاعدة “ترك الخبز للخبّاز”، بمعنى إيلاء الحاكم مسؤولية معالجة الوضع النقدي واستقراره، على أن تؤمّن السلطة السياسية الغطاء اللازم لمنع أي محاولة للمسّ بالعملة الوطنية ومستقبلها والحؤول دون التدخل في عمل الحاكمية من خلال وسائل الضغط، مع إقرار مشترك من الجانبين بوجود أزمة خطرة لكنّ الأخطر منها هو حجم الشائعات وحملات التهويل التي ترافقها.
وإذ كان التصدي للشائعات الهدامة لاقتصاد البلد واجباً وطنياً، لكن تحت هذا الشعار برز خلال الساعات الأخيرة ما يشي بنوايا مبيتة لتكريس ذهنية قمع حرية التداول بالأوضاع المالية والاقتصادية في البلد، من خلال ما بدا بمثابة “فرمان” صادر عن المكتب الإعلامي في القصر الجمهوري، على الطريق نحو الإمعان في سياسة تعليب الإعلام وتطويعه في إطار موجّه يخدم فقط الترويج لنظريات السلطة، تحت طائل التعرض للحبس بموجب المادة 209 من قانون العقوبات التي تحدد ماهية النشر، والمادتين 319 و320 من القانون نفسه والتي تحدد العقوبات التي تنزل بمرتكبي جرائم النيل من مكانة الدولة المالية… وصولاً إلى حجب حق “الكلام أو الصراخ والكتابة والرسوم واللوحات والصور والأفلام والتصاوير على اختلافها”، في حال تقرر أنها من وسائل نشر “الشائعات المالية”.
ولعل ما عزز الهواجس من نوازع قمعية يختزنها هذا “الفرمان”، (الذي تقاطعت المعلومات المتوافرة عند التأكيد على كون وزير الرئاسة سليم جريصاتي يقف وراء تعميمه)، هو مسارعة التلويح عبر قناة “أو تي في” بأنّ “العمل جارٍ على ملاحقة كل من يعمل على بث الشائعات التي تستهدف رئيس الجمهورية”. بالتوازي مع تحريك النيابة العامة المالية لفتح تحقيق فوري وملاحقة “كل من يهدد الثقة بالنقد الوطني”… فهل يُستدعى مثلاً أمام التحقيق معدو تقارير وكالات التصنيف الدولية لتأكيدهم على هشاشة الوضع الاقتصادي وارتفاع المخاطر الإئتمانية في لبنان؟ وهل يُعتبر تشكيك بعثة صندوق النقد الدولي بتحقيق الأرقام الملحوظة في موازنة 2020 قياساً على عدم التزام الدولة بأرقام موازنة 2019 جريمة يحاسب عليها “الفرمان”؟ خصوصاً وأنّ أحد المسؤولين الذين التقوا في الآونة الأخيرة أعضاء بعثة صندوق النقد أكد لـ”نداء الوطن” أن البعثة غير واثقة من التزام لبنان الرسمي بالأرقام نتيجة التباطؤ الحاصل في تنفيذ الإصلاحات، مشيراً إلى أنّ صندوق النقد يطرح ويصرّ على وضع ضرائب جديدة وإدخال زيادة على تسعيرة تعرفة الكهرباء لتعزيز الإيرادات، وأضاف نقلاً عن أعضاء هيئة الصندوق أنّها تصف الوضع في لبنان بـ”الدقيق وقد يصل إلى مرحلة الخطر إذا لم تسارع الدولة إلى الالتزام بتنفيذ الخطط الإصلاحية”، متوقعاً في ضوء ذلك أن يكون تقرير صندوق النقد المرتقب صدوره أواخر الشهر الجاري “قاسياً ومطابقاً لتوصيف بعثة الصندوق وهواجسها”.
ومع عودة رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري إلى بيروت، تستأنف جلسات مناقشة مشروع الموازنة اليوم أعمالها، في وقت علمت “نداء الوطن” أنّ وفداً من “اللقاء الديموقراطي” والحزب “التقدمي الاشتراكي” سيزور الحريري اليوم لعرض رؤية “الاشتراكي” الإصلاحية في الملف الاقتصادي وفي مشروع موازنة 2020 والملاحظات الموضوعة على ملف قطاع الكهرباء، حيث، وبحسب المعطيات، كان الحزب “الاشتراكي” قد أعدّ ملاحظات علمية وتقنية في هذا المجال تتمحور حول آلية التلزيم المقترحة ودفاتر شروط منتجي الطاقة المستقلين”IPP” في سلعاتا والزهراني.