لم تعد تنفع المكابرة ولا التلطي خلف الزيارات السورية البعيدة عن بقعة الضوء… بالأمس شكل تقاطع “الحدت” منعطفاً عونياً تاريخياً كسر “فوبيا” المجاهرة بالعلاقة بين العهد والأسد، ليرتقي على سلم هذه العلاقة نحو مستويات رئاسية عليا بلغت حدّ مجاهرة رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل، بما يمثل ومن يمثل على المستويين السياسي والشخصي لرئيس البلاد، بأنه عازم على الذهاب إلى سوريا. وبغض النظر عن “شمّاعة” إعادة النازحين التي غلّف بها موجبات إعادة التواصل “العوني” بين بيروت ودمشق، فإنّ رسالة 13 تشرين لم تكن لتُعطى بُعداً استراتيجياً في أجندة العهد لولا أنها أتت ضمن إطار مسار واضح بدأت ترتسم معالمه من خطاب رئيس الجمهورية ميشال عون في نيويورك، مروراً بخطاب باسيل في الجامعة العربية، وصولاً إلى تتويجه بالأمس بعبارة “أنا بدي إطلع على سوريا” مقرونةً برشق من التهديدات المشفّرة وجهها إلى مختلف الأطراف المعارضة لهذا التوجّه، في سياق يندرج ضمن الاستعداد والجاهزية لـ”قلب الطاولة” على الجميع في البلد في حال استمرار التصدي لعودة العلاقات، بين “لبنان عون” و”سوريا الأسد”.
لعله اعتبرها اللحظة المؤاتية الواجب اقتناصها، مدعوماً ومدفوعاً من “حزب الله” عقب لقاء الساعات السبع بين السيد حسن نصرالله وباسيل عشية كلمته في الجامعة العربية التي أشاد أمس الشيخ نعيم قاسم بـ”شجاعتها” وبتوقيتها… ففي خضم جملة مؤشرات إقليمية ودولية أبرزها الانكفاء الأميركي عن الساحة السورية، شمّر باسيل عن سواعده متوعداً يمنةً ويسرةً، كل من تسوّل له نفسه الوقوف في وجه “الماء الجارف”، وأصحاب “الرهانات الخاطئة”، بأنهم “في لحظة لا يتوقعونها” سيتم جرفهم بينما هم ينتظرون على “ضفة النهر”، في إشارة واضحة إلى العبارة الشهيرة لرئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط، وصولاً بشكل غير مباشر إلى تلويحه بالاستعداد للانقلاب على مفاعيل التسوية والحكومة المنبثقة عنها في حال اقتضت حاجة العهد ذلك، على قاعدة “إلى متى بدنا نضل نتحمّل من أجل التوافق والوحدة”، فالأمر لا يحتاج سوى إلى “ضربة على الطاولة” من عون لكي يقوم تكتله بقلبها، مع تحديد ما يشبه السقف الزمني الفاصل بين 13 تشرين و31 تشرين (تاريخ مرور نصف الولاية الرئاسية) لكي تنتظم مواقف الأفرقاء خلف أجندة الرئاسة الأولى وإلا حينها “منطلع على ساحة قصر الشعب أحسن ما نكون جالسين على أحد كراسيه”، وعون “بيرجع يتصرّف متل العماد يمكن أحسن من الرئيس”… وهو ما بدا بمثابة التهديد بتغليب نزعة “العسكرة” على الديبلوماسية الرئاسية في مواجهة المعارضين ومن وصفهم بـ”المتطاولين على رمز الدولة وذباب “الشتامين” الذين يتهمون العهد “بكمّ الأفواه”.
أما على المقلب السياسي الآخر، وبينما رأى البعض في كلام باسيل رداً عالي السقف على بيان المكتب الإعلامي لرئيس الحكومة سعد الحريري الذي أعاد تصويب بوصلة الموقف اللبناني الرسمي المتأطر تحت سقف الإجماع العربي حيال الملف السوري، فإنّ أوساطاً معنيّة قللت من أهمية النبرة العالية لرئيس “التيار الوطني الحر” ووضعتها في السياق “التجييشي والشعبوي” دون أن يكون لذلك أي مفاعيل جدية لا على مستوى إعادة النازحين “لأنّ النظام السوري نفسه يعطل أي محاولة لإعادتهم إلى وطنهم” ولا على مستوى التنسيق “القائم أساساً” بين التيار العوني ودمشق، عبر نواب ووزراء وشخصيات مقربة من رئيس الجمهورية أبرزها الوزير السابق بيار رفول المعروف بكونه موفداً رئاسياً إلى سوريا، في حين أنّ “التوافق في مجلس الوزراء لا يستطيع أي فريق أن يتفرد بإلغائه”.
وفي الغضون، نقلت مصادر رفيعة المستوى في جامعة الدول العربية لـ”نداء الوطن” أنّ المجتمعين خلال اجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة “تفاجأوا بموقف وزير الخارجية اللبناني”، وقالت المصادر التي كانت مشاركة في الاجتماع: “أصلاً لم يكن موضوع سوريا وعودتها إلى الجامعة العربية مطروحاً على جدول الأعمال لذلك أتى كلام الوزير باسيل مستغرباً من ناحية افتعال إثارته إعلامياً بغرض إيصال رسائل ذات أهداف داخلية لبنانية في جزء منها وخارجية في الجزء الآخر لا سيما وأنّه حرص على إطلاق موقفه هذا عند إلقاء كلمته خلال النقل المباشر ما يعني أنه يريد للرسالة أن تصل”.
لكن رغم ذلك، وبمعزل عن الأهداف الداخلية والخارجية، لا تنفي المصادر حقيقة أنّ المجتمعين في هكذا اجتماعات لا يمكنهم تجاهل أنّ “وزير خارجية لبنان يتحدث رسمياً باسم بلاده في كل ما يقوله كما في كل دول العالم، خصوصاً حين يتم الحديث على نسق “لبنان يؤكد ولبنان يطالب وما إلى ذلك من عبارات لا بد وأن يتم التعامل معها على أنها تنطلق من التعبير عن موقف لبنان الرسمي بغض النظر عن المواقف المناقضة لهذا الموقف في الداخل اللبناني”.