أن ينتفض شعب بمختلف أطيافه الطائفية وفئاته العمرية وانتماءاته المناطقية رافعاً لواء إسقاط المنظومة الفاسدة في الحكم ولا يرفّ جفن لأركان السلطة، تكون حقاً سلطة “تماسيح” تذرف دموع الإصلاح ومكافحة الهدر واستعادة الأموال المنهوبة، دونما أي إجراء عملاني خارج عن سياق المناورة والمكابرة والترويج لنظريات المؤامرة، وصولاً إلى استخدام سلاح “التخوين والتخويف” بمواجهة مطالب المتظاهرين، في محاولة يائسة لترهيبهم وتحميلهم مسؤولية مباشرة عن انهيار الدولة بأمنها واستقرارها واقتصادها وماليتها في حال استمروا بتحركاتهم المطلبية. سلاح درجت على استخدامه الأنظمة القمعية الديكتاتورية التي لا ترى في شعوبها سوى مجموعة قطعان أو رعايا مدجّنين على السمع والطاعة، وإن هم انتفضوا في وجه حكامهم يصبحون متآمرين خونة يأتمرون بأوامر الخارج ضد أوطانهم. واليوم في لبنان تستلّ السلطة هذا السلاح البائد للتعمية بخبث عن حقيقة كونها هي المسؤول الأول والأخير عن الانهيار الذي أوصلت إليه البلاد والعباد، بعد عقود من سطوتها على مقدرات الدولة وخزينتها العامة منذ اتفاق الطائف إلى يومنا الراهن، حيث تمارس أقصى درجات تطنيش الناس وتجاهل واقع انتفاضتهم العارمة من أقصى البلد إلى أقصاه من دون أي تفاعل حقيقي يستجيب لتطلعات المواطنين، الذين ثاروا أساساً ضد سلطة دفعتهم بسياساتها ومحاصصاتها وسمسراتها وصفقاتها إلى حافة الانهيار الاقتصادي والاجتماعي والمالي والخدماتي والبيئي والصحي والحيوي في مختلف مرافق الدولة وقطاعاتها.
وإلى سلاح التهويل الممنهج على الناس، يبدو أنّ القيمين على الحكم يراهنون على دفع الأمور باتجاه تدويل الأزمة باعتبار التهويل والتدويل كفيلين بقلب المشهد على رؤوس المنتفضين، من خلال تغليب كفة المؤامرة على كفة الحراك الشعبي، طمعاً بإعادة الطاولة السلطوية إلى قوائمها بعدما قلبتها ثورة 17 تشرين رأساً على عقب وأسفرت عن إسقاط الحكومة تحت ضغط الشارع. خطوة لم يكد رئيس الحكومة سعد الحريري أن يقدم عليها، استجابةً لتطلعات الناس بإعادة تكوين المؤسسة التنفيذية على صورة الإصلاح الحقيقي، حتى سرعان ما اصطدمت بحاجز تعليق الاستشارات النيابية الملزمة إلى إشعار آخر، يضمن تأمين بيئة حكومية حاضنة لرموز السلطة على صورة مموهة بتلوينة “تكنوقراطية”، تأمن المنظومة الحاكمة جانبها. وتحت وطأة الستاتيكو الذي فرضه رئيس الجمهورية ميشال عون بتأخيره الاستشارات النيابية الملزمة، و”حزب الله” برفضه الخروج من الحلبة الحكومية، بدا بديهياً خلال الساعات الأخيرة دخول المجتمع الدولي على خط الأزمة اللبنانية عبر جملة تصريحات وتحركات ديبلوماسية غربية، تصدّرها تصريح ربط الساحتين اللبنانية والعراقية على لسان وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو في وعاء واحد ضد النفوذ الإيراني في كلا البلدين، بينما تكثفت اللقاءات الديبلوماسية مع المسؤولين اللبنانيين على أكثر من مستوى أممي وأوروبي، بالتزامن مع تحذير نوعي من البنك الدولي من “مخاطر متزايدة على الاستقرار الاقتصادي والمالي في لبنان” ربطاً بالفراغ الحكومي الحاصل، ليخلص، حسبما عبّر على لسان مديره الإقليمي ساروج كومار جاه، إلى الحث على تشكيل حكومة جديدة “خلال أسبوع لمنع المزيد من التدهور وفقدان الثقة في الإقتصاد اللبناني”.
وبانتظار ما سيحمله الموفد الفرنسي كريستوف فارنو إلى بيروت الأسبوع المقبل، خلال الزيارة الاستطلاعية التي يلتقي خلالها المسؤولين السياسيين والماليين والأمنيين وممثلين عن المجتمع المدني، لتقييم الوضع على أرض الواقع اللبناني، تناقلت أوساط ديبلوماسية خلال الساعات الأخيرة معطيات (على الأرجح نقلها إليها مسؤولون في السلطة) تشي بوجود خشية من تدهور وشيك في لبنان على مختلف المستويات الاقتصادية والمالية والأمنية، في حال استمرار الأوضاع على ما هي عليه في الشارع، ومن هنا أفادت مصادر مواكبة لهذا الحراك الديبلوماسي، “نداء الوطن” أنه وتحت تعاظم الهواجس على الاستقرار اللبناني الهش، أتى قرار المجتمع الدولي بالتحرك العلني تجاه لبنان، بعدما كان هذا التحرك خجولاً خلف الكواليس منذ بداية الثورة الشعبية.
ونقلت المصادر أنّ العنوان الرئيس للتحرك الدولي إنما يتمحور حول نقطة مركزية تركز على ضرورة حماية المتظاهرين وتسريع عملية استشارات التكليف، الآيلة إلى تشكيل حكومة جديدة تحظى بثقة اللبنانيين وبثقة المجتمع الدولي على حد سواء، تمهيداً للشروع في عملية استنهاض الاقتصاد الوطني وفتح الآفاق أمام تقديم المساعدات الدولية والعربية للدولة اللبنانية، مالياً واقتصادياً، سواء عبر هبات أو ودائع أو قروض ميسّرة واستثمارات.
وفي هذا الإطار، توقعت المصادر وصول أكثر من موفد دولي إلى لبنان خلال الفترة المقبلة، بدءاً من الموفد الفرنسي، كاشفةً في سياق متصل أنّ باريس أجرت سلسلة اتصالات مع كل من طهران وموسكو بصدد الوضع في لبنان عشية زيارة بيروت لاستطلاع الأجواء السياسية اللبنانية وإمكانية بلورة تصور مشترك بين اللبنانيين أنفسهم للخروج من أزمتهم.