في المناسبات فيض من الكلام، أكثره غير نافع وفيه ببغائية مملة لمواقف معلبة وجامدة وكليشيهات، وتكرار لمواقف زعماء تتبدل بتبدل التحالفات، لكن الكلام العميق الذي يخرج بخلاصات ومواقف حقيقية وبمراجعات للسياسات وقراءة جديدة في التاريخ، يبقى قليلا، لكنه بليغ ويمكن الركون اليه اذا لم يكن ظرفياً ويرتبط بمناسبة. هذا الكلام البليغ قاله وزير الداخلية نهاد المشنوق قبل أيام في احتفال تكريمي لـ”العميد” ريمون إده وهو “اللبناني البيروتي السني الحريري” كما وصف نفسه، ليسكب على ما قاله ذاك البعد الوطني الذي تفتقده المواقف التي لا تخرج من اصطفافات، سياسية احياناً، وغالباً مذهبية طائفية بغيضة.
لم يتنبه كثيرون، ممن حضروا الحفل في جبيل، أو من الذين تابعوه مباشرة عبر الاعلام، الى التحول السياسي الذي اقر به المشنوق، وهو التحول الذي حمل اهل السنة الى الحضن اللبناني، قبيل اغتيال الرئيس رفيق الحريري وبعده، ولم يكن عابراً أو ظرفيا، بل صار مع الوقت مواطنة حقيقية تعترف بلبنان كياناً نهائياً لجميع ابنائه، دونما احلام بوحدة عربية مستحيلة، أو سوريا كبرى لن تتحقق، اوالوصف غير الواقعي للشعب الواحد في بلدين…
قال الوزير المشنوق متوجهاً الى ريمون إده: “كم كنت على حق، حين رفضت بعناد اتفاق القاهرة عام ١٩٦٩، وهو الاتفاق الذي شرّع البلاد أمام تجربة السلاح الفلسطيني، وأنا من جيل ينتمي الى هذه الخطيئة بحق لبنان واللبنانيين.
كم كنت على حق، وأنا اللبناني البيروتي السني الحريري، كم كنت على حق يوم حذّرت من تحويل اتفاق الطائف وسيلة لأسر لبنان في قبضة الوصاية السورية فرفضت الدعوة الى المشاركة في اعمال النواب اللبنانيين في مدينة الطائف في ايلول ١٩٨٩.
لم يكن رفضك للمشاركة في مداولات الطائف يومها نابعاً من رغبتك في استمرار الحرب، أو لاوهام واطماع شخصية، ولا حقداً على الشركاء في الوطن أو تنصلاً من الشراكة وأنت سليل البيت الذي رشح الشيخ محمد الجسر، المسلم السني، لانتخابات رئاسة الجمهورية عام 1932 تجسيداً لتلك الشراكة. لكن عزَّ على لبنانيتك أن يرضخ نواب الامة لموجبات الامر الواقع وميزان القوة ويقبلوا بصياغات حول تنظيم للعلاقات اللبنانية – السورية تنتهك سيادة لبنان”.
إنه إذاً اعتراف جريء بخطيئة تتكرر اليوم، باستجلاب مشاكل الخارج الى لبنان، سواء بالتدخل في الحرب السورية التي يقوم بها علناً “حزب الله” في تجربة اسوأ من “قوات الردع” الى لبنان التي تحولت احتلالا، أو بفتح الحدود اللبنانية أمام نحو مليوني لاجئ سوري، وتنبه الدولة الى خطورة الأمر بعد فوات الأوان. لكن الاعتراف من طرف واحد لا يصلح ما أفسده الدهر، بل يحتاج الأمر الى مشنوق لدى كل الأطراف والطوائف يتلون فعل الندامة على ما اقترفوه بحق لبنان الوطن الرسالة.