منذ وصول باخرة نيترات الأمونيوم إلى مرفأ بيروت عام 2013، نظّمت الدولة اللبنانية العرض العسكري في عيد الاستقلال، أكثر من مرة، في جادة شفيق الوزان المتصلة بمدخل مرفأ بيروت. قبل كل احتفال، يتولى الجيش تفتيش كل «قرنة» في المنطقة الممتدة من جسر فؤاد شهاب جنوباً، إلى البحر شمالاً، ومن الكرنتينا شرقاً، إلى عين المريسة غرباً. لا يُترك غطاء لأقنية مياه الأمطار والصرف الصحي، من دون أن يُفتح بحثاً عن متفجرات. يُنشَر القناصون على أسطح مشرفة لاصطياد أي طائرة مُسيّرة عن بُعد، خشية حملها المتفجرات. تُقفَل الطرق خشية سيارة أو دراجة مفخخة بالمتفجرات. يُفتَّش المارة خشية حمل أحدهم للمتفجرات. الإجراءات نفسها طُبِّقت يوم انعقاد القمة الاقتصادية العربية في بيروت عام 2019، في مكان مطل على المرفأ. لكن أحداً في المؤسسة العسكرية لم يجد نفسه معنياً بوجود 2750 طناً من نيترات الأمونيوم، أي ما يعادل أكثر من 1100 طن من مادة الـ«تي أن تي» الشديدة الانفجار، على بعد أقل من ألف متر من المكان الذي تجمّع فيه آلاف العسكريين، وكل أركان الدولة، وسفراء دول أجنبية، للاحتفال بعيد الاستقلال. تكرر ذلك على مدى سنوات. الأزمة هنا ليست أزمة نظام وحسب، ولا أزمة فساد حصراً… بل هي قبل ذلك وبعده أزمة كفاءة. غالبية المعنيين بالأمن تعاملوا مع نيترات الأمونيوم بصفتها سماداً زراعياً يمكن استخدامه في تصينع المتفجرات، لا مادة متفجرة يمكنها تدمير المرفأ وأجزاء كبيرة من العاصمة، وقتل العشرات وجرح والآلاف، وتوجيه واحدة من أقسى الضربات إلى الاقتصاد الوطني. سماد زراعي. لهذا السبب، وربما لغيره، لم يكلّف أحد منهم نفسه عناء القول إن ما هو موجود في العنبر الرقم 12 يجب إخراجه فوراً.
داخل العنبر الرقم 12، يمتزج الفساد بقلة الكفاءة بسوء الإدارة بأزمة نظام عاجز عن تنظيم السير بين إداراته المختلفة. ما هي مسؤولية مكتب أمن المرفأ التابع لمخابرات الجيش؟ ما هي مسؤولية مكتب أمن المرفأ التابع لأمن الدولة؟ لماذا اعتبر الأخير وجود النيترات في المرفأ أمراً خطيراً، فيما تجاهل الأول الأمر؟ لماذا قضى الجهازان أربعة أشهر يتشاوران (بين 27/1/2020 و29/5/2020، بحسب ما قال المدير العام لأمن الدولة في اجتماع المجلس الاعلى للدفاع، وبحسب ما هو وارد في تقرير أمن الدولة بشأن العنبر الرقم 12) قبل إبلاغ النيابة العامة بما في حوزتهما من معلومات؟ لماذا لم يكشف أحدهما على محتويات العنبر؟
السؤال الأخير سببه ما أظهرته التحقيقات. فالسجلات تكشف عن وجود نحو 2750 طناً من نيترات الأمونيوم، ونحو 23 طناً من المفرقعات، و1000 إطار سيارة، وبراميل تحوي مواد سائلة سريعة الاشتعال تدخل في صناعة مواد التنظيف وفتائل (بطيئة) للتفجير… إلى جانب 50 طناً من فوسفات الأمونيوم. حتى يوم أمس، لم يتمكّن القضاء من تحديد كيفية وصول فوسفات الأمونيوم إلى العنبر الرقم 12. لا سِجلّ يُظهر ملكيتها. مفاجآت العنبر الرقم 12 لا تقتصر على وجود ما سبق ذكره من بضائع مجهولة المالك، بل تتعداه إلى وجود كمية من نيترات الأمونيوم، غير الـ2750 طناً، لا يُعرف وزنها ولا مالكها، إذ كانت موضبة في أكياس غير تلك التي وُضِّبت فيها الـ2750 طناً. مصدرها مجهول.
عند مدخل العنبر الرقم 12، حصلت الفجيعة الكبرى. عمليات التلحيم لسدّ الفجوة لم تحصل يوم 4 آب وحسب. بدأت يوم 30 تموز 2020، واستُكمِلت في الثالث من آب، قبل أن يتم إنجازها يوم الرابع من آب. عصر ذلك اليوم، وصل الحدادون متأخرين. لم يجدوا المسؤول عن العنبر الرقم 12. اتصلوا به ليطلبوا منه فتح الباب، فقال لهم إن دوامه انتهى وصار في منزله، خاتماً حديثه بـ«عودوا غداً». اتصلوا بمسؤولة عنهم في الشركة المتعهدة إجراء عمليات الحدادة لسد الثغر في العنبر، فقالت لهم أن يُنجزوا عملهم في الباب الرئيسي للعنبر وهو مقفل. لم يكن معهم أحد من إدارة المرفأ، ولا من أي جهاز أمني. أنهوا عملهم قبل دقائق من الساعة الخامسة من بعد الظهر، وغادروا المرفأ في تمام الخامسة. بعد نحو 35 دقيقة، بدأ الدخان يخرج من العنبر، فاستُدعيت فرق الإطفاء. ما إن فُتِح باب العنبر «المجهول المحتويات» بالنسبة إلى الإطفائيين، حتى استعرت النيران. عند السادسة وثماني دقائق من يوم 4 آب، وقع الانفجار.
المشكلة اليوم هي في الركون إلى خلاصة تحقيقية أولية تقول إن سبب الحريق هو حصراً «التلحيم فيما الباب مقفل، وبالتالي، لم يتمكّن الحدادون من معرفة إذا ما كانت عملية التلحيم قد أدت إلى سقوط شرر ما داخل العنبر. وهذا الشرر تسبب في الحريق الذي أدى إلى الانفجار». ما الذي يسمح للقيمين على التحقيق بحسم أن الحريق لم يندلع بسبب تدخّل ما، بعد إنهاء الحدادين لعملهم؟ لا شيء، ولا أحد، حتى اللحظة، قادر على حسم هذه الفرضية.