التحقيق الحاصل في قضية انفجار العنبر رقم 12 الذي دمّر مرفأ بيروت وأحياء كثيرة فيها، كان يجب أن يبدأ في نهاية العام 2013، إعتباراً من تاريخ وصول الباخرة روسوس التي كانت تحمل هذه الكمّية الهائلة من نيترات الأمونيوم، 2750 طناً. ذلك أنّ هذا الإنفجار الهائل كان يُمكن أن يحصل قبل 4 آب أو بعده. المسؤولية تبدأ منذ بدء تحميل هذه الباخرة في جورجيا وتمتدّ حتى الموزمبيق.
تبدو رحلة الباخرة “روسوس” التي انطلقت في أيلول 2013 من ميناء باتومي في جورجيا وكأنّها رحلة مع الموت والمجهول، رحلة باخرة لم تكن مُحمّلة بنيترات الأمونيوم فقط، بل بكمّية هائلة أيضاً من الألغاز التي تحتاج إلى تحقيق دولي واسع الخبرات والصلاحيات حتى يكشف بعض أسرارها.
الباخرة والقرصان
قصّة هذه الباخرة تُذكّر بقصص القراصنة، حيث أنّها منذ انطلاق “عملية النيترات” اكتنفها الغموض، وحامت حولها الشبهات التي بدأت تتظهّر اليوم على خلفية الإنفجار الكبير، ولو لم يحصل هذا الإنفجار ربّما لم يكن هذا الملف ليُفتح، ولكان بقي غارقاً مع الباخرة التي، بحسب ما ذكرت المعلومات، أنّها غرقت في البحر. أين غرقت؟ وكيف؟ وهل تم إغراقها عمداً؟ هذا جزء من رواية الأسرار التي على التحقيق أن يكشفها.
الباخرة في أساس عملها يبدو وكأنّها استُؤجِرت لهذه المهمّة ليتمّ التخلّص منها بعدها. قصّتها تشبه قصّة عدد من البواخر التي أخرجت من الخدمة ثم استدعيت لتقوم بمهمّة محدّدة ليتمّ التخلّص منها بعدها. مهمّة قذرة لا يقوم بها إلا القراصنة في عمليات مشبوهة خارجة عن القانون الدولي. في المعلومات العامة عن السفينة أنّها صُنعت في اليابان في العام 1986 وأنّ طولها 86 متراً وعرضها 12 متراً، وأنّ ملكيتها تنقّلت بين أكثر من مالك حتى وصلت إلى رجل أعمال روسي تدور حوله شبهات كثيرة يدعى إيغور غريتشوشكين وقيل أنه كان يُقيم في قبرص أو يحمل الجنسية القبرصية. المعلومات لم تؤكّد حتّى ملكيته للسفينة، ذلك أنّ بعضها ذكر أنّه كان يستأجرها. فهل استأجرها للقيام بهذه المهمة ثم تخلّى عنها وغاب عن السمع؟ وإذا كان الأمر كذلك، فمن استأجر هذا الرجل للقيام بهذه المهّمة؟
من دفع ثمن النيترات؟
من أين تمّ تحميل الباخرة في جورجيا؟ على أي أساس تم تحميلها؟ لمن كانت البضاعة مُرسلة؟ المعلومات الصحافية تقول إنّ الباخرة انطلقت من مرفأ باتومي في جورجيا وكانت ترفع العلم المولدافي، وكانت وُجهتها المُعلن عنها مرفأ بييرا في الموزمبيق.
بحسب البيان الصادر عن مكتب محاماة “بارودي ومشاركوه”، كانت البضاعة مشحونة لأمر بنك موزمبيق الدولي، ومُرسلة إلى شركة fabrica de explosives في الموزمبيق أيضاً. هذا المكتب حصل على هذه المعلومات بعد توكّله عن طاقم الباخرة الذي احتجز في مرفأ بيروت. هذه المعلومات تحتاج إلى تدقيق في التحقيق. هل كانت الشحنة مُرسلة إلى الموزمبيق؟ من دفع ثمن البضاعة في جورجيا؟ هل هناك تحويلات مالية حصلت عبر بعض المصارف؟ هل يمكن التأكّد من المصرف الموزمبيقي ومن الشركة الموزمبيقية؟ المسألة ليست مُعقّدة، ولكنّ هذا الأمر يحتاج إلى تحقيق دولي يبدأ في جورجيا ويصل إلى الموزمبيق.
في موقع الشركة الموزمبيقية الالكتروني يظهر أنّها موجودة وتعمل في مجال صناعة المتفجّرات، ولديها مكاتب في عدد من الدول الأفريقية الأخرى، وهي “شركة مُتخصّصة في تصنيع واستخدام المتفجّرات للأغراض التجارية والتركيز الرئيسي لشركتنا هو على إرضاء عملائنا وتطبيق عمليات التصنيع الأكثر تقدّماً… وتتمّ مراقبة الجودة في كل خطوة من خطوات سلسلة عملياتنا”. المسألة لا تتعدّى السبعة أعوام، ويمكن أن تكشف هذه الشركة عمّا إذا كانت استوردت هذه الشحنة، أم أنّه تم زجّ اسمها في هذه القضية التي كان مُقدّراً لها أن تغرق في البحر من دون الكشف عنها.
لماذا بيروت؟
أكثر من ذلك. تذكر المعلومات العامة أنّ الباخرة أبحرت في 23 أيلول 2013 من جورجيا ووصلت إلى مرفأ اسطنبول في تركيا في 3 تشرين الأول. هنا حصل ما لم يكن في الحسبان. اختلف قبطان الباخرة والبحّارة مع مالك الباخرة أو مستأجرها على البدل المادي وتركوا الباخرة. تمّ البحث عن بحّارة آخرين. قبطان الباخرة الذي قادها من تركيا إلى بيروت هو الروسي أو الأوكراني بوريس بروكوشيف. هذا البحّار لم يظهر إلى العلن إلا بعد الإنفجار الكبير، وقد هاله حجم الدمار الذي أحدثه. وكشف في أحاديث صحافية أنه اتّفق مع المالك أو المُستأجر على الحصول على مليون دولار أميركي مُقابل إيصال الشحنة إلى الموزمبيق. هذا البحّار الذي قاد الباخرة إلى مرفأ بيروت وتمّ احتجازه مع ثلاثة بحّارة غيره على متنها يقتضي أن يخضع للتحقيق. ومن الطبيعي أنّ لجنة إدارية حكومية لبنانية أو حتى أجهزة الأمن والقضاء في لبنان لا يمكنها أن تستدعيه وتستمع إليه. وهو لن يحضر طوعاً للإدلاء بإفادته، لأنّه يُمكن أن يكون من بين المُشتبه بهم الذين يجب توقيفهم في اعتبار أنّه يتحمّل مسؤولية كبيرة. فهل صحيح أنّه اتّفق على بدل مليون دولار لقاء عمله؟ وهل يستحقّ هذا العمل كلّ هذا المبلغ؟ أم أنّه جزء من عملية غير شرعية كانت تحصل فوق مياه البِحار؟ ولماذا تخلّى عن كلّ شيء في ميناء بيروت ليتمّ السماح له بالمغادرة إلى بلاده؟ وهل كان قرار الإفراج عنه مع البحّارة الآخرين صائباً؟
ماذا حصل للباخرة في الميناء التركي وفي طريق الوصول إلى مرفأ بيروت؟ بحسب المعلومات العامة أيضاً، التي تحتاج دائماً إلى تدقيق وتثبيت وتصحيح عبر تحقيق دولي، وصلت الباخرة إلى مرفأ بيروت في 21 تشرين الثاني. أي بعد شهرين من انطلاقها من مرفأ باتومي، بينما تطلّب الأمر عشرة ايام لتصل من باتومي إلى اسطنبول. هل استُهلك هذا الوقت في عملية تدبير طاقم العمل الجديد؟ وإذا كانت طريق الباخرة نحو قناة السويس لتعبر نحو الموزمبيق، فلماذا اختار الطاقم أن تلجأ إلى ميناء بيروت؟ ما صحّة ما حُكي عن عطل تعرّضت له؟ وما حقيقة ما كشفه القبطان عن أنّ مالك الباخرة أو مُستأجرها تخلّى عنها بعد رسوّها في ميناء بيروت بحجّة أنه أفلس ولم يعد لديه مال لدفعه، لا للبحّارة ولا لمتابعة الطريق نحو الوجهة المُحدّدة من البداية؟ وهل صحيح أنّهم حاولوا تحميل كمّية من الحديد وكادت تغرق الباخرة بسبب الحمولة الزائدة؟ وهل هذا الأمر هو السبب الحقيقي الذي استدعى تدخّل سلطات مرفأ بيروت لمنع الباخرة من الإبحار، بحجّة أنها غير مُطابقة للمواصفات؟ ولماذا هذا الحرص على الباخرة إذا لم تكن هناك أي علاقة لبنانية عامة أو خاصة بها؟ هل كان المطلوب أن تدخل مرفأ بيروت وأن تبقى فيه وأن يتمّ تفريغ حمولتها؟ وبالتالي هل كانت بيروت هي الوجهة الحقيقية لهذه الباخرة؟
لماذا تم تفريغ النيترات؟
منذ تاريخ رسوّ الباخرة في مرفأ بيروت، تبدأ المرحلة اللبنانية المحلّية من رحلة الباخرة والشحنة، وتبدأ مهمّة الأجهزة الأمنية والقضائية اللبنانية مع المعنيين من الذين توالوا على التعاطي مع هذا الملفّ حتى احتجاز البحّارة وحجز الباخرة وتفريغ الشحنة وحتى حصول الإنفجار، وذلك لكشف ما حصل من تطوّرات في هذه القضية. هل هناك ملفّ قضائي مثلاً أم مجّرد مراسلات قضائية وإدارية؟ من اتّخذ القرار بتفريغ الحمولة ووضعها في العنبر رقم 12؟ من دفع بدل رسوّ الباخرة وبدل تخزين المواد القابلة للإنفجار؟ هل جرت محاولات جدّية لبيعها بالمزاد العلني، أمّ أنها كانت موضوعة في الحفظ؟ من ترك العنبر مكشوفاً ومُباحاً؟ وهل الـ 2750 طنّاً التي أُنزلت إلى البرّ كانت لا تزال 2750 طنّاً، أم أنّ كمّيات منها أُخِذت من العنبر؟ هل سُحبت الباخرة من الرصيف وتُركت تغرق وحدها؟ أم أنّ إغراقها كان مُتعمّداً للتخلّص منها؟ إذا كانت باخرة شرعية والعملية كلّها شرعية، فلماذا تمّ التخلّي عن الشحنة وعن الباخرة؟ ولماذا لم يُطالب بها أحد، ومن كان وكيلها البحري في المرفأ؟
المسألة لا تتعلّق فقط بالكشف عمّن يتحمّل مسؤولية التقصير والإهمال في تخزين “العبوة الناسفة” وفي السبب الرئيسي الذي أدّى إلى تفجيرها. هذه مسؤولية أكبر، خصوصاً في ما يتعلّق بما يُحكى عن علاقة “حزب الله” بالشحنة وبالتخزين في العنبر رقم 12 وفي أنّ الإنفجار نتج عن غارة إسرائيلية. التحقيق يجب أن يكشف كلّ ذلك، ويجب أن يتناول كل مسار الباخرة والشحنة من جورجيا إلى الموزمبيق. هل يُمكن للجنة تحقيق محلية أعطيت مهلة خمسة أيام أن تكشف كل هذه الأمور؟ طبعاً لا. من مصلحة “حزب الله” أن يتمّ توضيح الغموض الذي يلفّ العملية كلّها لكي يدفع التُهم المُوجّهة إليه ولو كانت تُهماً غير رسمية. ومن مصلحة السلطة أن يكون التحقيق دولياً، لأنّه طالما لم يكن كذلك ستبقى المحاولات المحلّية قاصرة عن القيام بالمهمّة الشاملة لكشف كل الحقائق، وسيبقى كل ما دون ذلك مدعاة للتشكيك وللقول إنّ هناك محاولات مستمرّة لإضافة المزيد من الغموض على القضية، ولإغراق المسؤولية كما غرقت الباخرة.