لأوروبا مصلحة في بقاء «ستاتيكو» الاستقرار في لبنان خوفاً من تسرّب النازحين إلى دولها
ما أن غادر وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو الأراضي اللبنانية حتى بدأت التحليلات والاجتهادات حول المواقف النارية التي أطلقها باتجاه «حزب الله» وطرحت الكثير من التساؤلات حول إمكانية أن تكون النبرة العالية للدبلوماسي الأميركي هي بمثابة مؤشر لاحتمال قيام إسرائيل بعدوان واسع النطاق على لبنان لضرب «حزب الله» تنفيذاً للخطوات المطلوب ان تقدم عليها واشنطن وتل أبيب لتعبيد الطريق أمام الإعلان النهائي لصفقة القرن التي كانت قد بدأت بنقل الولايات المتحدة سفارتها إلى القدس المحتلة، ومن ثم توقيع الرئيس دونالد ترامب الاعتراف بضم الجولان السوري المحتل إلى سيطرة العدو الإسرائيلي.
من نافل القول أن تل أبيب تعمل ليلاً ونهاراً وفي السر والعلن، فور انتهاء حرب تموز من العام 2006، لرد الصفعة التي وجهها إليها حزب الله في هذه الحرب على كافة الصعد السياسية والعسكرية والنفسية، وفي كل مرّة تحاول إسرائيل وضع الخطط اللازمة للقيام بهكذا عملية تجد نفسها غير ضامنة لتحقيق الانتصار، لا بل إن المسؤولين في تل أبيب على المستويين السياسي والعسكري وصلوا إلى قناعة تامة بأن القيام بأي عمل عسكري غير مضمون النتائج ستكون انعكاساته كارثية على الدولة العبرية في ظل تنامي القدرة العسكرية لـ«حزب الله» والتي جعلته قادراً على ضرب الهدف الذي يريده على مساحة فلسطين. واللافت في هذا السياق ان العدو الإسرائيلي كان عند قيامه بأي عدوان على لبنان يُحدّد الأهداف مسبقاً ويُعد العدة لدخول الأراضي اللبنانية التي كانت بالنسبة إليه حتى تموز عام 2006 مجرّد نزهة، غير انه اليوم يضع الخطط والاستراتيجيات لمنع دخول عناصر «حزب الله» إلى الشمال الإسرائيلي، وهو يعتبر تحولاً استراتيجياً كبيراً في الصراع مع إسرائيل، ولأن القيادة العسكرية الإسرائيلية تعلم علم اليقين إمكانية حصول خرق لـ«حزب الله» باتجاه المستوطنات الشمالية في حال اندلعت الحرب، فإنها تحسب ألف حساب عند مجرّد التفكير بأي حماقة عسكرية تجاه لبنان. وما عزّز مخاوف الإسرائيليين في هذا السياق هو معرفتهم التامة لمدى الخبرة التي اكتسبها عناصر «حزب الله» في الحرب السورية، وأن ما حققه على المستوى الميداني من الممكن ان يعود ويترجمه على الحدود الشمالية.
حيال هذا المشهد الإسرائيلي الذي يرصده «حزب الله» بشكل كامل، فإن قيادة هذا الحزب تنام مطمئنة البال من ان قيام إسرائيل بعدوان على لبنان في المدى المنظور غير موضوع على الأجندة الأميركية أو الإسرائيلية لأن مجرّد التفكير بأي عمل من هذا النوع في هذه المرحلة ستكون تكاليفه باهظة على إسرائيل، وان قوة الردع التي باتت بحوزة «حزب الله» لن يكون من السهل على إسرائيل القضاء عليها مهما امتلكت من أسلحة متطورة ودعم أميركي.
وبالرغم من الصخب الدولي الموجود، والأوضاع غير الصحية التي تضرب العالم العربي طولاً وعرضاً، فإن إسرائيل ما تزال عاجزة عن الحصول على تأييد الدول المؤثرة في المنطقة حول أي عمل عسكري تجاه لبنان، لا بل ان إسرائيل تبلغت عبر القنوات الدبلوماسية، لا سيما من فرنسا وحتى من الولايات المتحدة، وإن مرحلياً، الحرص على استقرار لبنان ورفض العبث بوضعه الداخلي، وهذا الحرص نابع بالتأكيد من علم يقين لدى هذه الدول بأن إسرائيل لن تكون لها القدرة على تحقيق الهدف الذي تسعى إليه وهو إزالة «حزب الله» عن الوجود، وثانياً وهو مهم أيضاً خوف فرنسا والدول الأوروبية من ان يؤدي أي اضطراب داخل لبنان إلى تسرّب النازحين السوريين باتجاه أوروبا لأن حصول مثل هذا الأمر ستكون له ارتدادات سلبية وقاتلة على مساحة القارة الأوروبية، ولذلك تسعى هذه الدول إلى الإبقاء على «الستاتيكو» الموجود حالياً إلى ان تظهر معالم التسوية التي يُعد لها في المطابخ الإقليمية والدولية.
وعدم المراعاة الأوروبية للرغبات الإسرائيلية ظهر بالأمس بوضوح من خلال اعتبار الخارجية الفرنسية الاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان السوري المحتل أمراً منافياً للقانون الدولي، وهذا الموقف الفرنسي يعد مؤشراً واضحاً على عدم انسجام الموقف الأوروبي مع الموقف الأميركي تجاه تل أبيب، وبالتالي فإن الأوروبيين لن يعطوا بالطبع إسرائيل بطاقة خضراء تسمح لها بالاعتداء على لبنان في هذه المرحلة بغض النظر عن الموقف الأوروبي من «حزب الله».
وإذا كان العدوان الإسرائيلي على لبنان ليس وارداً أقله في هذه الآونة، فإن الخوف كل الخوف ينبع من السيناريوهات الخطيرة التي ترسم للمنطقة ويأتي في مقدمة هذه السيناريوهات العمل الحثيث على تقسيم المنطقة والذي سيبدأ بتوطين النازحين واللاجئين حيث هم الآن، ناهيك عمّا يخطط من عمليات تسفير في بعض الدول لتأمين نجاح عملية التقسيم التي تنتظرها إسرائيل بفارغ الصبر، لأن حصول هذا الأمر في تقديرها سيؤمن لها مناخات الأمن والاستقرار على مدى سنوات طويلة.
غير ان مصادر متابعة وان كانت لا تسقط من حساباتها مثل هذه السيناريوهات، فإنها لا ترى ان المناخات الموجودة على الرغم من مخاطرها مؤاتية لترجمة مثل هذا السيناريو على أرض الواقع بعدما فشلت الولايات المتحدة في ما خططت له في سوريا والعراق.
وفي اعتقاد هذه المصادر ان المنطقة قادمة على أحداث خطيرة، ولكن الأمور لن تصل إلى حصول أي خلل في موازين القوى يكون له تأثير كبير على أرض الواقع.