المعاناة اللبنانية منذ اتّفاق الطائف بأقلّ تقدير مرَدُّها إلى غياب التوازن الإقليمي الذي كان باستمرار لمصلحةِ محوَر المقاومة، إلى درجةِ أنّ خطوةً بحجمِ انسحابِ الجيش السوري من لبنان، والتي صادفَ أمس ذكراها العاشرة، لم تسمَح بعودة مشروع الدولة.
التوازن في المشهد اللبناني الذي نشَأ بفعل الرعاية الأميركية-الفرنسية وتُرجم بالقرار ١٥٥٩ واستُكمِل بإخراج الجيش السوري من لبنان في ٢٦ نيسان ٢٠٠٥ أسقَطه «حزب الله» على مرحلتين، تمهيدية وقاضية: الضربة التمهيدية تمثّلَت بأحداث ٧ أيار ٢٠٠٨ التي عطّلَ من خلالها اللعبة الديموقراطية والمَسار الذي انطلقَ مع انتخابات العام ٢٠٠٥ على قاعدة أكثرية وأقلّية، وذلك باشتراطه الثلثَ المعطّل في الحكومات في اتّفاق الدوحة.
والضربة القاضية تمثّلَت بإخراج قوى ١٤ آذار من السلطة عبر إسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري بواسطة هذا الثلث تحديداً، وقيام حُكم أحاديّ الجانب للمرّة الأولى منذ الخروج السوري، ولولا الثورة السورية وما نتجَ عنها لكانَ لبنان دخل عصراً جديدا من الوصاية.
فالدرسُ الأوّل والثابت بمناسبة الذكرى العاشرة للانسحاب السوري أنّ الوضع في لبنان لا يمكن أن يستقيمَ على أساس استفاقةٍ دولية موسمية، وأنّ التوازن لا يمكن أن يتحقّق من الباب الدولي ولا بأدوات محَلّية، كون ١٤ آذار ليست بوارِد التَسَلّح، وأنّ التوازن الوحيد المنشود هو التوازن الإقليمي، وتحديداً السنّي-الشيعي والسعودي-الإيراني.
والدرسُ الثاني بالمناسبة نفسِها أنّ الأزمة اللبنانية لا يمكن وضعُ حدّ لها قبل وضعِ حدّ للدور الإيراني، وذلك من خلال تسويةٍ سعودية-إيرانية برعاية دوليّة تنقل الدورَ الإيراني من السلبي إلى الإيجابي.
والدرس الثالث أنّ قوى ١٤ آذار مجتمعةً لا يمكنها أن تعيدَ الاعتبار إلى الدولة من دون التصاقٍ واضح بالتحالف العربي الجديد، إلى حدّ أنّ تربطَ مصيرَها بمصيره، بعيداً عن أوهام اللبنَنة وغيرها.
والدرس الرابع أنّ النموذج اللبناني لا يمكن إحياؤه من دون رعايةٍ إقليمية تضمَن سيادتَه واستقلاله، وذلك بانتظار أن يستكمل اللبنانيون مشوارَ لبنَنتِهم. وفي هذا السياق لا يمكن التحدّث عن الرعاية السورية، لأنّها كانت وصايةً لا رعاية، بل يمكن الحديث عن الرعاية الناصرية في عهد فؤاد شهاب التي عزَلت التأثيرات الخارجية على السيادة اللبنانية، ويمكن الحديث أيضاً عن رعاية سعودية مؤمِنة بسيادة لبنان واستقلاله وتجربة العيش المشترَك فيه، حيث تكون وظيفة هذه الرعاية مثلّثة الأضلاع: تعطيل النفوذ الإيراني السلبي، بمعنى أنّ أحداً ليس ضدّ النفوذ الإيراني الإيجابي الداعم فقط للدولة ومؤسّساتها، ومنع التطرّف السنّي أو النشوة السنّية من التأثير على السيادة اللبنانية، وأن تضمنَ التوازن بين كلّ المكوّنات اللبنانية.
والكلام عن الدور السعودي المنشود كان مجرّد تمَنٍّ قبل «عاصفة الحزم» التي حوَّلته إلى واقع، وحتى الحديث عن سقوط النظام السوري كجِسر تواصل بين طهران و«حزب الله»، يبقى غيرَ كافٍ، على أهميته، من دون منظومةٍ إقليمية متكاملة تجعل الوضعَ السوريّ الجديد جزءاً منها، وتكون مهمّتها هندسة العلاقة بين مكوّنات المحور العربي، وتمنع أيّ تدَخّلٍ سوريّ في لبنان.
وأيّ مقاربة للوَضع بعد عشر سنوات على الخروج السوري تُظهِر أنّ الصورة تبَدّلت بدءاً من رفعِ السعودية العَلمَ العربي وصولاً إلى ترتيب البيت العربي، وما بينهما منعُ إيران من وضعِ يدِها على اليمن، والحَدّ من نفوذها في العراق، وإسقاط حليفِها السوري أو تعطيله على طريق إسقاطه، وارتباك حليفِها اللبناني نتيجة توزيع قواه واهتمامه على أكثر من محور، وتقلّص نفوذِها داخل فلسطين إلى حدوده الدنيا.
وكلّ مَن لا يريد أن يرى تقدّم المعارضة السورية ويَبحث عن خلفيّاته وأسبابه وتوقيته، فهذا شأنه، والذي لا يريد مراقبةَ التحَوّل في الموقف الروسي الذي تُرجِم بالقرار الدولي اليمني، فهذا شأنه أيضاً، والذي لا يريد أن يتساءل عن أسباب تحَوّل الخبر النوَوي إلى خبر ثانوي، فهذا شأنه أيضاً وأيضاً، إلّا أنّ خطواته السياسية ما لم تكن مبنية على قراءة صحيحة ستدفعُه إلى منزلقات هو بغِنى عنها.
فالأكيد أنّ المشهد في المنطقة تبَدّلَ، وهو يتّجه لأن يتبدّلَ رأساً على عقب، والكلام من الآن وصاعداً عن إسقاط النظام السوري باتَ ممكناً، لأنّ البدائل التي كان يتحدّث عنها المجتمع الدولي أصبحَت متوافرة من خلال التحالف العربي-السنّي الذي يقطَع الطريقَ على الفوضى والمنظّمات الإرهابية، ويَضمن سياسياً وعسكرياً تنفيذَ ورعاية أيّ تسويةٍ سوريّة.
وهل مجرّد مصادفة أن يشَكّلَ توقيع الاتّفاق-الإطار النووي مؤشّراً للحَدّ من النفوذ الإيراني؟ وألّا يشَكّلَ اليمن رسالة مدوّية لطهران بأنّ الاتفاق النوَوي لا يمكن أن يشَكّلَ غطاءً لدورها الإقليمي، بل مدخَلاً لتغيير سياستها في المنطقة؟
ويبقى أنّ لبنان هو بأفضل لحظة سياسية اليوم محَلّياً وإقليمياً ودولياً منذ 14 آذار 2005. وإذا كان الانسحاب السوري أعادَ التوازن نسبياً ومؤقّتاً إلى المشهد الداخلي، وإذا كانت الأزمة السوريّة أعادت التوازن نفسَه نسبياً وبشكلٍ مؤقّت، فإنّ الوضع العربيّ الجديد هو الكفيل وحدَه بإعادة التوازن الفعلي الذي سيُتيح إخراجَ لبنان من منطق الساحة إلى فلسفة الوطن، وقيام الدولة بَعد أكثر من ٤٦ عاماً على تغييبها.