Site icon IMLebanon

ليس بالخُطب يحيا الجمهور

يُمكن الجزم، أن أيّاً من الدائرين في فلك سعد الحريري ما كان يملك معلومة واحدة عن إمكانية عودته إلى بيروت للمشاركة في احتفال الذكرى العاشرة لاغتيال رفيق الحريري. فالمسألة على جانب عالٍ من الحساسية الأمنية بحيث كان يستحيل على أي منهم أن يردّ على السائلين جازماً، بالإيجاب أو بالنفي.

ومع ذلك، كانت هناك توقعات وتقديرات لا أكثر تملأ هذا الفراغ، بانتظار أن يحسم برج المراقبة في بيروت، الجدل. يقول بعض «المستقبليين» إنّ احتمال «العودة الثانية» كان وارداً، لاعتبارات سياسية ستدفع بـ «الشيخ» إلى توضيب حقائبه من جديد ليكون بين المنبريين الموكلين مهمة إشعال المسرح والجمهور.

بنظر هؤلاء ثمة حاجة ماسة لدى قيادة هذا الفريق لـ «مادة مثيرة» تشغل عقول ناسهم وألسنتهم وديوانياتهم الشعبية في أعقاب الاحتفال السنوي، فتعيد الحياة إلى شرايين القواعد التي صارت تعاني من جفاف مزمن، يصعب على الخطابات مداواتها.

إذاً، لا بدّ من حدث ما يُغني عن المواقف المملة التي راحت تكرر ذاتها في كل مرة يقف فيها أهل البيت على المسرح ذاته، فتدخل من أذن مستمعيها لتخرج في اللحظة نفسها من الأذن الأخرى. عملياً استهلكت كل المفردات الممكن أن تخطر في الذهن، واستنفدت التعابير التعبوية التي من شأنها أن تلهب الجماهير.

في الفريق الحريري الكل يقرّ بأنّ الأزمة البنيوية والخطابية تنخر في العظام، ولا مفرّ من البحث عن بدائل، بعدما شبعت القواعد وعوداً كبيرة بالانتصارات النظيفة، لم تترجم سوى تفاهمات تسووية تأتي بعد تقديم التنازلات.

إذاً، لم يكن هناك بديل عن وقوف «وليّ الدم» أمام ناسه لطمأنتهم بأنّه لم يتركهم، حتى لو خذلتهم مواقفه على مرّ الأشهر والأسابيع. بعد عشر سنوات على الاغتيال الذي جرّ وراءه بحراً من البشر مشوا خلف الوريث السياسي لرفيق الحريري، لم يبق من هؤلاء إلّا بعض «البِرك»، بعدما عاد كثر إلى منازلهم إحباطاً، وصفق البعض الآخر في الخفاء لأمثال خالد ضاهر وغيره من «دواعش السياسة»، وأخليت الساحة للرايات السوداء.

كثيرة هي المتغيّرات التي فرضت نفسها على الداخل اللبناني عموماً وعلى الأجندة الزرقاء خصوصاً، منذ الزلزال الكبير وحتى اليوم، لعل أبرزها الحرب السورية وتسلل نيرانها عبر الحدود، الصدام السني – الشيعي، بروز المجموعات التكفيرية الإرهابية.

لا ينكر بعض المستقبليين أنّ فريقهم يواجه أزمة خطاب، هي الأكثر فتكاً بجسمه، وراحت تقضم من طبقه لتقدّمه لأصحاب الخطابات المتشددة، من دون أن يتمكّن الزرق من وضع حدّ لهذا الارتباك، الذي يحمله حيناً إلى جبهة الخصومة الحادة مع «حزب الله»، وينقله حيناً آخر إلى شاطئ المهادنة الحوارية.

يقرّ هؤلاء أنّ عوامل عدة تركت آثارها على مقاربة «تيار المستقبل» السياسية منذ العام 2005 وحتى اليوم، وبدت تجلياتها واضحة على الخطاب والأداء والنهج، فطوّقته بدلاً من أن تحرره.

إذ حين قرر «نجل الشهيد» أن يكمل المسيرة، ارتأى ومَن حوله من «التِركة» تحييد «حزب الله» عن الواجهة الخصومية، من باب حصر الاتهام بالقيادة السورية والمنظومة الأمنية اللبنانية التي كانت تستظل جناحيها. لا بل راح الحريريون أبعد من ذلك لنسج تحالف رباعي يحول دون عزل الشيعة، هو عملياً تتمة للمسار الذي رسمه «الحريري الأب» قبل سنوات حين سعى للتفاهم مع السيد حسن نصر الله على قاعدة عدم التآمر على سلاح «حزب الله» والبحث عن مساحات مشتركة.

ولكن حين وقعت حرب تموز من العام 2006، انكسرت معادلة «التعايش الطوعي»، وانتقل الفريقان إلى خنادق الخصومة القاسية، التي لم توفر حتى «رصاصات الخيانة» في تصويبها السياسي. فتخلى «الزرق» عن أدبيات «الاحتضان» و «الاستيعاب» البراغماتية، وتسلحوا بمفردات «الحرب والسلم» و «السلاح غير الشرعي» و «المشاريع الإلغائية».. إلى أن وقعت أحداث 7 أيار التي حفرت لحظة عميقة في وجدان «تيار المستقبل» لم يخرج منها هؤلاء حتى اللحظة، حتى لو رُقّعت باتفاق الدوحة، على المنطق التسووي ذاته الذي تحكّم بالعقل الحريري. فكانت على الأثر حكومات المحاصصة السياسية تحت شعار «كلنا منحبّ سما لبنان».

يومها يتذكر كُثر من «القماشة الزرقاء» كيف خيضت معركة العام 2009 النيابية على وتر «الخطابات الوجودية»، وحين أقفلت صناديق الاقتراع لانتخابات العام 2009، نام هؤلاء على وسادة انتصار نظيف، اعتقدوا أنّه سيمكنهم في اليوم التالي، من التفرّد بدفة الحكم الذي سيبعد عنهم كأس «حزب الله» المرة.

لكن المنطق التسووي عاد وتغلّب على ما عداه، فترأس «الشيخ» حكومة قوس قزح أجلسته وجهاً لوجه مع «المقاتلين الصفر»، في خطوة لم تعكس أبداً المزاج الشعبي وإنما سبحت عكس مياهه، وضربت كل استراتيجية «المستقبل» في التعامل مع شركائه في الوطن.

من أمام البيت الأبيض الأميركي صار سعد الحريري رئيساً سابقاً للحكومة، فعادت حال اللاتوازن السياسي تشعل أعصاب الجمهور الأزرق، لا سيما أنّ زعيمهم حيّرهم في مواقفه الهجينة: ذهب حتى النهاية في توصيف ما جرى معه لدرجة اعتباره انقلاباً على التفاهمات السياسية لا بل اغتيالاً سياسياً له، وعاد لتشريع هذا الانقلاب من خلال المشاركة في الاستشارات النيابية التي أعادت نجيب ميقاتي إلى السرايا الحكومية.

استمر الارتباك إلى أن وقع السحر السوري. هكذا هطلت «السما الزرقا» على رؤوس الحريريين بنعمة جديدة بمقدورها شدّ عصب جمهورها المتراخي، فأضيف عامل انقسام جديد إلى الموزاييك اللبناني المتشقق، لا بل صار مضطراً لمواجهة صدام سني ــ شيعي مؤجل من سنوات.

ومجدداً، وعلى قاعدة تفادي التصدّع الداخلي بفعل الزلزال السوري، عاد الخصمان إلى مائدة الحكومة، وهذه المرة برئاسة تمام سلام، بعدما بلع الزرق كل خطاباتهم الممانعة «للتعايش الحكومي» والرافضة للمشاركة ما لم يعد «حزب الله» من سوريا.

لم يكتف «الزرق» بهذ القدر من التراجع، لا بل زادوا عليه طاولة حوارية صار عمرها خمس جلسات، يُفترض أنّ مهمتها محصورة بالبحث عن مساحات التقاء تساهم في تخفيف الاحتقان والتشنج والحؤول دون احتراق البلد، وترصد بباطنية واضحة… تطوّرات الخارج كي تعدّل في موازين قوى الداخل.

وهكذا، مهما حاول «الحريريون» التذاكي على جمهورهم لإخفاء عيوب «الانفصام» بين الخطاب والأداء، لمدّ الجالسين قبالتهم في مجمّع «البيال» ببعض مقوّيات الحماسة للتفاعل مع الكلمات التي تليت أمامهم… فقد خرج كثر من الاحتفال وفي بالهم سؤال واحد: إلى أين؟