رغم أن كثيرا من تفاصيل الهجمات التي راح ضحيتها أكثر من 120 شخصا في باريس مساء الجمعة الماضي لم تتكشف بعد٬ فإن تنظيم داعش أعلن مسؤوليته عن الهجمات. وبناء عليه٬ يتحتم على فرنسا وغيرها من الدول المشاركة في الصراع السوري٬ أن تضع في الاعتبار تجربة روسيا الأخيرة مع هذا النوع من الإرهاب٬ وهو أنها لن ترفع يدها حتى تنجح في التعامل مع لّب الأزمة.
صرح الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند صباح السبت الماضي٬ أن الهجمات كانت «أشبه بحرب» شنها جيش من المتطرفين. قد يكون هذا صحيحا جزئيا حتى وإن اتضح أن بعض المهاجمين لم يكونوا محترفين أو من المقيمين من فرنسا أو حتى مواطنين فرنسيين (أفاد شهود عيان شاهدوا المهاجمين يفتحون النار عشوائيا على جموع الناس في الطريق المؤدي لمسرح باتاكلان٬ بأنهم سمعوا المهاجمين يتحدثون الفرنسية من دون لكنة أجنبية).
فجر أربعة من المهاجمين الثمانية الذين ُحددت هوياتهم٬ ثلاثة في محيط استاد فرنسا الذي استضاف مباراة في كرة القدم بين منتخبي فرنسا وألمانيا٬ والرابع في شارع بوريفار فولتير٬ أنفسهم من دون التسبب في خسائر كبيرة٬ باستثناء مدني واحد لقي حتفه جراء التفجيرات.
في حين تسبب باقي الإرهابيين في مقتل أكثر من 120 قتيلا٬ بعد أن فتحوا النار بشكل متزامن على رواد مسرح باتاكلان ومقهى مزدحم. وزاد ذلك التزامن في تنفيذ العمليات الإرهابية المخاوف من شن مزيد من الهجمات٬ خصوصا بعد العملية التي سبقتها التي استهدفت مجلة «شارلي إيبدو» في يناير (كانون الثاني) الماضي٬ والتي راح ضحيتها 17 قتيلا٬ وهو نمط من العمليات اعتاد الروس عليه. ففي عام ٬2004 هزت سلسلة من الهجمات الإرهابية روسيا٬ واستمرت حرب الشيشان بين قوات الأمن الروسية ومسلحين انفصاليين من القوقاز لنحو خمس سنوات٬ بعدما قام انتحاري بتفجير نفسه في مترو أنفاق موسكو في فبراير (شباط) ٬2004 مما تسبب في مقتل 42 شخصا. وفي يونيو (حزيران) من العام نفسه٬ قتل عشرة أشخاص في انفجار قنبلة داخل سوق مزدحمة بمدينة سمارا٬ وبعدها مباشرة وقع هجوم على مقار الشرطة في إنغوشيتيا بجمهورية القوقاز٬ مما أوقع مئات القتلى. وفي شهر أغسطس (آب)٬ فجر انتحاريان طائرتي ركاب راح ضحيتهما 90 راكبا٬ وقامت انتحارية بتفجير نفسها بالقرب من محطة لمترو الأنفاق ليقتل عشرة أشخاص (وكان من الممكن أن يرتفع العدد في حال نزلت الانتحارية لرصيف المحطة٬ لولا يقظة رجل أمن أوقفها في الطريق).
وأخيرا٬ في بداية شهر سبتمبر (أيلول)٬ أقدمت فرقة شيشانية على احتجاز 1128 رهينة في مدرسة بمدينة بسلان٬ شمال أوسيتيا٬ مما أدى إلى مقتل 334 مدنيا٬ منهم 186 طفلا٬ خلال فترة الاحتجاز التي استغرقت ثلاثة أيام. وانتهت العملية بقيام قوة من العمليات الخاصة باقتحام المبنى وتصفية 31 إرهابيا.
وشهدت روسيا كثيرا من العمليات الإرهابية بعد هذا العام الدامي٬ وإن لم تكن بالقدر نفسه؛ ففي عام ٬2005 عين الرئيس فلاديمير بوتين ابن رجل الدين الشيشاني أحمد قاديروف٬ الذي قتل عام 2004 في هجوم إرهابي٬ في إدارة الشيشان نيابة عنه٬ وكان الابن (29 عاما آنذاك) تواقا للثأر لمقتل أبيه٬ ولأن أنصار قاديروف كانوا دعاة للانفصال في ذلك الوقت٬ فقد كان لقاديروف شبكة استخباراتية ممتازة في المنطقة التي مزقتها الحرب.
وتلقى قاديروف تمويلا سخيا من بوتين٬ إضافة إلى إعفاء من تطبيق القوانين الفيدرالية٬ وذلك للخلاص من أي شخص يعده عدوا. ولم يستغرق الأمر أكثر من ثلاث سنوات وبضعة أشهر كي ينهي الحرب هناك٬ وبذلك جعل بوتين الانفصاليين المهزومين٬ يشعرون بعدها بأنه لم يعد هناك معنى لشن هجمات إرهابية على المدن الروسية.
وعلى حّد تعبير الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند في وصفه «داعش»٬ جاءت الحملة «بلا رحمة»؛ إذ إن الهجمات القليلة التي أعقبتها لم تكن سوى صدى لحملة واحدة قوية.. ففي عام ٬2004 كانت الحرب الأساسية تدور في جبال الشيشان٬ وكانت الهجمات التي تشن على موسكو وعلى غيرها من المدن الآمنة٬ وسيلة لبث الرعب في نفوس الشعب الروسي٬ مما يرفع من تكلفة الحرب بالنسبة للحكومة.
قد يكون للإرهابيين في تفجيرات فرنسا الدافع نفسه٬ فالحرب الأساسية اليوم تدور رحاها في سوريا٬ وأعلن تنظيم داعش مسؤوليته عنها السبت الماضي٬ على غرار ما فعل التنظيم إثر تفجيرات بيروت الخميس الماضي التي راح ضحيتها 43 قتيلا على الأقل٬ وتزيد احتمالات تورط «داعش» في تفجير الطائرة الروسية في الأجواء المصرية الشهر الماضي٬ مما تسبب في مقتل 224 راكبا كانوا على متنها ردا على القصف الروسي في سوريا. ويبدو أن التنظيم قد انتقم من فرنسا التي وسعت نطاق ضرباتها الجوية ضد «داعش» في سبتمبر الماضي٬ لتمتد من العراق إلى سوريا. وفي الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي٬ أعلنت فرنسا أنها بصدد إرسال حاملة طائرات إلى البحر المتوسط للمساعدة في العمليات الحالية ضد «داعش». وعلى غرار ما فعله القادة الشيشانيون عام ٬2004 يحاول إرهابيو داعش» أن يجعلوا العمليات العسكرية التي تشنها قوات الدول المشاركة في القتال ضد معاقلهم٬ أمرا مكلفا بالنسبة لتلك الدول.
ولم تتجاهل فرنسا الأمن الداخلي منذ هجوم مجلة «شارلي إيبدو»٬ وقامت بدعم قوات مكافحة الإرهاب بإضافة 2500 جندي٬ وتقوم أجهزة استخباراتها بمراقبة نحو 15000 شخص حاربوا في صفوف المتطرفين في سوريا والعراق٬ وتمتلك تلك الأجهزة الآن قائمة بأسماء أحد عشر ألف شخص ممن تعدهم راديكاليين خطرين.
وعليه٬ فقد أخذت العوائق والمحاذير التي تمنع مراقبة الأفراد في التلاشي. وعقب هجمات مجلة «شارلي إيبدو»٬ صيغ قانون استخباراتي جديد يسمح لرئيس الوزراء بمقتضاه بالمراقبة الفورية للاتصالات٬ واستخدام كاميرات المراقبة٬ وزرع أجهزة تنصت في المنازل لمنع العمليات الإرهابية قبل حدوثها من دون الحاجة لإذن قضائي.
وتقبل فرنسا عددا محدودا نسبيا من اللاجئين السوريين٬ مما يعفي أجهزة الاستخبارات من التدقيق في هوية مئات الآلاف من الأشخاص للتحقق من عدم صلتهم بالإرهاب.
بيد أن أيا من تلك الإجراءات لن ينجح في منع مزيد من الهجمات٬ مثلما لم تنجح وكالات إنفاذ القانون الجبارة الخاضعة لبوتين في منع الرعب الذي شاهدناه عام 2004 رغم أن تلك الوكالات تمتلك قوائم بالمشتبهين وصلاحيات غير محدودة للمشاهدة والتنصت؛ ففي بعض الأحيان استطاعت تلك الأجهزة أن تقف على بعض خطوات من العملية٬ لكن النجاح بنسبة مائة في المائة أمر غير مضمون٬ فالجماعات المتطرفة قادرة دوما على تجنيد أعضاء جدد٬ ولا تحتاج كثيرا من الوقت لتخطط لهجوم بالرصاص أو لعملية انتحارية.
رهان بوتين الآن هو رهانه نفسه وقت حرب الشيشان٬ فهو يساعد قائدا عديم الرحمة٬ بشار الأسد٬ في حربه ضد كل من يحمل السلاح٬ سواء كان إسلاميا أو إرهابيا أو انفصاليا.
يتحتم على الولايات المتحدة وغيرها من الدول الأعضاء في التحالف أن تعّد نفسها أهدافا محتملة لهجمات على غرار ما حدث في باريس٬ فتلك الدول في حاجة إلى أن تقرر إذا ما كانت في حاجة إلى استنساخ تجربة بوتين في محاربة الإرهاب٬ فقد أثبتت التجربة فاعليتها في الشيشان٬ رغم عدم تيقن بوتين من إمكانية نجاحها في سوريا. غير أن أمرا واحدا يبدو جليا هنا؛ وهو أنه لا توجد دولة واحدة في مأمن من تكرار الهجمات الإرهابية التي حدثت في باريس مساء الجمعة الماضي٬ إلا أن ُيحل الصراع السوري وُيهزم تنظيم داعش.
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»