خلال زيارته بدايات الشهر الماضي للمملكة العربية السعودية ولقائه بمسؤولين سعوديين كبار، عاد مرجع سياسي مسيحي آنذاك بمجموعة انطباعات خلاصتها كما نقلها الى مقرّبين منه: أنّ القيادة السعودية ستحسم خلال الأسابيع الأربعة المقبلة (أيْ أواسط شهر شباط الحالي) قرارها في ما إذا كانت ستعود الى لبنان بفعالية سياسية أكبر أم إنها ستبقي على سياستها المعتمدة منذ العام ٢٠١١ وفحواها إدارة الظهر لقضاياه الداخلية نظراً لكون الرياض تستغرقها أولويات استراتيجية لأمنها القومي كاليمن والعراق وسوريا.
وثمّة مصادر تتخذ من عودة الرئيس سعد الحريري الى بيروت والمنتظر أن تطول «لأيام كثيرة» إن لم يكن «لأسابيع عدة»، دليلاً على أنّ توقعات المرجع المسيحي صدقت بحيث إنّ السعودية اتخذت فعلاً قراراً بالكفّ عن إهمال حضورها السياسي في لبنان لمصلحة تفعيله.
لماذا الآن؟
في نظر مصادر خليجية توجد أسباب مركبة؛ بينها أنّ عودة الرياض الى إبداء اهتمامٍ أكبر بالساحة الداخلية اللبنانية، يتصل بجانب منه بالتحضير للقمة العربية التي ستنعقد في نيسان المقبل في مدينة مراكش المغرب، ومراكش لا تُعتبر فقط مدينة مغربية مهمة، بل تمّ تصميم مكانتها داخل المغرب لتلعب دور نقطة تفاعل عالمية داخل المغرب العربي. وعليه فإن عقد العرب قمّتهم فيها ستُسلط على هذا الحدث أضواء اهتمام خارجية إضافية.
وتضيف هذه المصادر أنّ الرياض تراهن على قمة مراكش لتحقق لها عربياً ما حققته لها إسلامياً قمة القاهرة حيث خرجت بأكبر دعمٍ إسلامي لمعركتها المركزية ضدّ إيران. كذلك فإنّ الرياض، والقاهرة الى حدٍّ ما، تعتبران أنّ قمة نيسان العربية المقبلة تكتسب أهمية خاصة لأنها تمثل أوّل لقاء على مستوى رؤساء الدول العربية، يُعقد بعد توقيع الاتفاق الإيراني ـ الأممي وفي الأساس بعد بدء تنفيذ هذا الاتفاق، ولكونها تأتي في لحظة تضع فيها الرياض على طاولة القرار الدولي ورقة تكرار الخيار العربي العسكري في سوريا بعد اليمن.
وترى المصادر عينها أنّ الرياض تنوي ترحيل ملف حسم قرار التدخل البرّي العربي في سوريا المحتاج لموافقة أميركية لم تأتِ بعد، الى قمة مراكش العربية.
وضمن هذا السياق، تبدو الرياض، في نظر هذه المصادر، معنية بأن تحصل انتخابات الرئاسة اللبنانية قبل أيلول المقبل، وذلك لهدفين؛ الأوّل لتسليط الضوء على صورة الرئيس اللبناني المشارك داخل القمة، بصفته الرئيس العربي المسيحي الوحيد في المنطقة؛ وفي ذلك رسالة من القمة الى العالم، والثاني بصفته الرئيس الذي وصل الى قصر بعبدا بفضل مسعى عربي وضعت تنفيذه بين يدي الحريري، ما أدّى الى إنهاء أزمة الشغور الرئاسي في لبنان التي بدأت الصحافة الخليجية تتحدث عنها بصفتها مفتاح كلّ الأزمة الراهنة ومفتاح كلّ حلولها.
يبقى السؤال غير المحسومة الإجابة عنه في المحافل السياسية الخليجية المهتمة بالوضع اللبناني وهو عما إذا كانت عودة الحريري بخلفيات مهمتها اللبنانية والعربية ستنجح في إنتاج رئيس للجمهورية ينهي أزمة الشغور الرئاسي ويُفسح المجال أمام لبنان ليشارك على مستوى رئيس الجمهورية في قمة مراكش وليس على مستوى رئيس الحكومة؟.
تجيب المصادر عينها أنّ المهمة من حيث المبدأ تبدو صعبة، وتقارب أن تكون مستحيلة. والسبب الرئيس الذي يعوقها هو أنّ المرحلة السياسية التي تمرّ بها المنطقة ـ والمتوقع لها أن تستمرّ حتى انتهاء الانتخابات الرئاسية الأميركية- تتسم بأنها «مرحلة صدامات لا تفاهمات» و»نزاع إثبات إرادات سياسية لا تنازلات سياسية».
ومع ذلك تبقى هناك بارقة أمل لحدوث اختراق قبل قمة مراكش، نظراً لحاجة المحور العربي الى انتصار على مستوى إنتاج حلّ لمشكلة إنهاء شغور الموقع الرئاسي العربي المسيحي الوحيد في المنطقة، وعلى مستوى جعل حضور الرئيس اللبناني في القمة العربية بمثابة رسالة عن القدرة العربية المستجدة التي يُكثِر السعوديون منذ «عاصفة العزم» في اليمن الحديث عنها والترويج لها دولياً وإقليمياً.
وترى هذه المصادر أنّ عودة الحريري الى لبنان في هذه المرحلة، تتضمّن أجندة ذات «بنود لبنانية» وأُخرى «عربية في لبنان»؛ وبذلك فهو يقترب في هذه اللحظة من تكرار دور بدايات تجربة والده حينما جاء الى لبنان كممثل لمهمة إنقاذية عربية مدعومة دولياً، وكان سياقها ينشئ توازناً بين الدورين السوري والسعودي في بلد الأرز.
ولعل اختيار الحريري لسليمان فرنجية كمرشح تسوية بين تيار «المستقبل» و«حزب الله»، إنما أراد الاشارة بشكل مضمر الى هذا المعنى، مع فارق اختلاف الظروف هذه المرة التي تتمثل بأنّ الحريري الأب أدّى دوره آنذاك في أجواء وئام بين الرياض ودمشق، فيما الحريري الإبن يؤدّي دوره الآن في اجواء صدام بين طهران والرياض، وليس بادياً أنّ وقت الرهان على انتهاء هذا الصدام قد حان.
وفي نظر مراقبين لهذا المشهد، فإنّ ترشيح النائب ميشال عون للرئاسة، يشكل «خطّ تماس» اشتعال المواجهة السياسية داخل معادلة أزمة الشغور الرئاسي في لبنان، بين الرياض وطهران، وعليه فإنّ مجرّد ترشيح محور عربي لفرنجية، كان كافياً للنظر اليه على أنه محاولة من هذا المحور «لتسديد هزيمة لإيران في لبنان من دون الانتصار على دمشق».
غير أنّ اختبار تطبيقات هذه المعادلة خلال الشهرين الماضيين أثبت عدم القدرة على تجسيدها واقعاً مادياً، وعليه يجد مصمّمو مبادرة ترشيح فرنجية التي دُعِمَت عربياً، أنّ الواقعية السياسية والحاجة للمّ صفوف ١٤ آذار تدعوهم الى الاكتفاء بالحدّ الأدنى من النتائج التي حققتها هذه المبادرة، وهي نجاحها في رمي حجر كبير في بئر الشغور الرئاسي الراكد، إضافة الى الاستمرار في ترشيح فرنجية طالما أنه يخدم فكرة تحريك حيويات البحث عن رئيس تلبية لاحتياجات قمة مراكش من ناحية، وتلبية من ناحية ثانية لشروط توازن اللعبة الداخلية،
حيث إنه كما تمّ وضع ترشيح جعجع في وجه ترشيح عون خلال المشهد الأوّل من الاستحقاق الرئاسي، فإنّ ترشيح فرنجية يتمّ وضعه حالياً في وجه ترشيح عون، ليُصار في نهاية الاشتباك الاقليمي أو من خلال استقطاع هدنة للبنان من داخل هذا الاشتباك المرشح لأن يطول، لانتقاء مرشح ثالث تسووي لا يكون من داخل «نادي الأقوياء الأربعة المسيحيين»، بل من داخل «نادي الأقوياء بتلاقي الإقليميين عليهم».
وفي هذه اللحظة فإنّ الرهان حالياً هو على استقطاع هدنة قبل قمة مراكش من وقت الاشتباك الاقليمي الطويل. وفي حال تعذّر ذلك، فإنّ عملية انتخاب رئيس الجمهورية العتيد سترحل الى ما بعد انتخابات الرئاسة الأميركية، وهو الموعد الذي يتمّ تحديده الآن كأقرب توقيت متوقع لانتقال المنطقة من مرحلة المراوحة في أزمة سوريا، الى مرحلة دخولها لحظة تسوياتها الكبرى.
وبالعودة الى خلاصات الاستنتاجات التي حصّلها المرجع المسيحي الذي زار الرياض الشهر الماضي وحمل معه الى بيروت خبر أنّ الاخيرة تقترب من العودة سياسياً الى لبنان، يجدر التوقف عند أبرز الانطباعات التي خرج بها من لقاءاته بالمسؤولين السعوديين الكبار:
أولاً- الرياض مهتمة بتدعيم محور الاعتدال اللبناني الذي له شقان:
أ- دعم خيار الاعتدال داخل الساحة السنّية اللبنانية في وجه محاولة اختراقها من الجماعات التكفيرية. وهنا تبرز عودة الثقل لدور الحريري كزعامة سنّية قادرة على التأثير في الشارع السنّي وليس التأثر به، بمعنى امتلاكه إمكانات قيادته وليس الانقياد لحالات هياجه بفعل أوضاع المنطقة.
ب- دعم تيار اعتدال لبناني وطني عابر للطوائف، لأنّ الفكرة التي نُقِلَت للسعوديين من غير مرجع لبناني ركزت على أنّ مقاومة التطرّف تحتاج الى خيار وطني وليس فقط سنّي.
ج – دعم الجيش اللبناني في مواجهة مروحة المشكلات الوجودية التي تتهدّد لبنان على مستوى شلل مؤسساته وتأكيد دعم تعبيراته كدولة.