مع تفاقم الخلاف السياسي على تشكيل الحكومة، تزداد الإنذارات في شأن إنهيار إقتصادي متوقّع. هذه الشائعات التي تخدم أهداف سياسية لبعض الافرقاء، لا أساس لها من الصحّة بحكم أن المؤشرات الإقتصادية تُظهر نموًا إقتصاديًا واضحًا. إلا أن الإهتمامات تنصّب أكثر على عجز الموازنة الذي قد يزيد من نسبة الدين العام.
ينمو الإقتصاد اللبناني بنسبة 1 إلى 1.5% بحسب التقديرات، وذلك منذ العام 2013. هذه النسب من النمو تؤشّر إلى أن حجم الإقتصاد (53 مليار دولار أميركي) ينمو بنسبة 1 إلى 1.5% سنويًا مما يعني في علم الإقتصاد أن هناك نموا إقتصاديا، إلا أن البحث أكثر في المؤشرات الإقتصادية، يكشف أن نسبة النمو هذه ليست كافية لتغطية كلفة الدين العام (1% على 53 مليار د.أ أقلّ من 7% على 83 مليار د.أ) وبالتالي لا يستطيع هذا النمو الإقتصادي إمتصاص العجز الناتج عن ثلاثة بنود أساسية هي (بحسب الأهمية): بند الأجور والتعويضات في القطاع العام، بند خدّمة الدين العام، وبند دعم مؤسسة كهرباء لبنان.
رفع نسب النمو لا يمرّ إلا عبر الإستثمارات. لذا من غير المُجدي الحديث عن أي نمو إقتصادي من دون ضخ أموال في الماكينة الإقتصادية التي يؤدّي النمو فيها إلى نفخ الإستهلاك، زيادة الإستثمارات، وزيادة مداخيل الدوّلة. هذا البند الأخير يسمح للدولة بإمتصاص العجز الذي لا يُمكن محوه إلا إذا وصلنا إلى نسب نمو 11% وهذا من شبه المُستحيل في ظلّ البيئة السياسية، القانونية التي يوجد فيها الإقتصاد.
القطاعات الإنتاجية في لبنان تواجه صعوبات، لكن لا يُمكن القول أنها تواجه تسونامي سيقضي على الإقتصاد. على سبيل المثال، تراجعت صادرات لبنان الصناعية منذ العام 2012 من 4.3 مليار دولار أميركي إلى 2.64 مليار د.أ في العام 2017، أي أنه في المُطلق هناك تراجع لا يتخطّى الـ 12% على صعيد الإنتاج بحكم أن 19% فقط من الإنتاج هو للتصدير في حين أن السوق الداخلي (81%) ينمو بحسب طلبات الترخيص (652 في العام 2017).
زراعيًا لا زالت الأوضاع على حالها منذ إقفال معبر نصيب ولا شيء جديدا على هذا الصعيد. فالمزارعون يواجهون أعباء التصدير التي تُشكّل قسما من إنتاج لبنان. في المُقابل يتمّ إستهلاك القسم الأكبر محليًا في ظلّ منافسة من الدول الإقليمية.
سياحيًا، وعلى الرغم من زيادة عدد السواح الوافدين إلى لبنان إلا أن الإنفاق السياحي يراوح مكانه بحكم أن السياح مُعظمهم من اللبنانيين المُغتربين الذي يزورون لبنان وبالتالي لا يُنفقون مثل السواح الخليجيين الذين يُنفقون أضعاف ما يُنفقه السواح اللبنانيين. وبالتالي أيضا يُمكن الإستنتاج أن القطاع السياحي يراوح مكانه.
على صعيد الخدمات، يُمكن القول أن التجارة والخدمات المصرفية ما زالت تُسجّل نسب نمو مقبولة جدًا نظرًا الى وضع البلد وبيئته السياسية والجغرافية. وعلى هذا الصعيد، يحظى القطاع المصرفي بشكل شبه حصري بثقة المُستثمرين المُقيمين والمُغتربين حيث أن نمو الودائع مازال إيجابيا مع نسب نمو ستصل إلى 7% في نهاية العام 2018.
أمّا على صعيد تحاويل المُغتربين اللبنانيين، فنرى أن هناك زيادة ملحوظة في العام 2017 (7.9 مليار دولار أميركي) مقارنة بالعام 2016 (7.1 مليار دولار أميركي). وهذا يعني أن توافد هذه الأموال بالعملات الصعبة هي ضمانة إضافية لليرة اللبنانية.
وبالحديث عن الليرة اللبنانية، نرى أنها صامدة مدعومة بإحتياطات بقيمة 57 مليار دولار أميركي إضافة إلى 12 مليار د.أ أصول بالدولار تمتلكها المصارف اللبنانية في المصارف الأجنبية. هذا الأمر يعني أن نسبة هذه الأموال على الناتج المحلّي الإجمالي تفوق الـ138% وهي الأعلى عالميًا وإقليميًا أمام السعودية، تركيا، مصر، سوريا، العراق… إذًا نرى أن أجهزة الدفاع عن الليرة اللبنانية قوية ومتينة بفضل السياسات النقدية.
المالية العامّة وبالتحديد العجز في الأشهر الأربعة الأولى من العام 2018، تُظهر أن توقعات العجز هي أعلى مما تمّ توقعه في موازنة العام 2018 (5.77 مليار د.أ مقارنة بـ4.8 مليار د.أ كانت مُتوقّعة). هذا الإختلاف يأتي من الإنفاق المُفرط على البنود الثلاثة الآنفة الذكر (الأجور والتعويضات في القطاع العام، خدّمة الدين العام، ودعم مؤسسة كهرباء لبنان). وبالتحديد نرى أن بند الأجور إرتفع نتيجة التوظيفات التي مازالت مُستمرة في الوزارات والمؤسسات العامة تحت عدّة تسميات (أجير، مياوم، أشغال بالأمانة…) ولكن أيضًا إرتفاع الدعم لمؤسسة كهرباء لبنان التي بفعل إرتفاع أسعار النفط (يُشكّل الفيول 65% من كلفة الإنتاج).
كل هذا يؤدّي إلى زيادة العجز والذي وفي ظل غياب نسب نمو عالية يتحوّل إلى دين عام مع كل إصدار جديد لسندات الخزينة. هذه الدوّامة المالية لا يُمكن الخروج منها إلا بإتباع الطريقة الهولندية أي خفض كل بنود الموازنة بنسبة مئوية مُعيّنة أو الطريقة التحليلية عبر الدخوّل في البنود الأكثر كلفة وتخفيضها بشكل كبير.
في غياب الإرادة السياسة لخفض الإنفاق، يبقى الحلّ الوحيد أمام الحكومة أن تعمد إلى رفع الضرائب. ولكن السؤال المطروح: هل يكفي رفع الضرائب لسدّ عجز الموازنة؟ الجواب يُمكن أو يكون نعم ولكنه سيقضي بالتأكيد على النمو الإقتصادي مع غياب أي تطبيقات لمؤتمر سيدر1-.
في الختام، نرى أن الحديث عن الإنهيار ليس بصحيح بل أن هناك تراجعًا ناتجا عن خليط من العوامل السياسية، الإدارية… هذا التراجع لا يُمكن عكسه إلا أذا طُبقت دقائق مؤتمر سيدر1- بشقيه الإستثماري والإصلاحي. وبالتالي يُمكن الجزم أن كل الشائعات التي تطال لبنان اليوم هي شائعات هدفها (داخليًا) سياسي و(إقليميًا) إقتصادي. هذه الشائعات لن تستطيع زعزعة النظام اللبناني بحكم أن زعزعة هذا الأخير تتطلّب ضرب الليرة وهذا أمر مُستحيل في ضل الإجراءات المُعتمدة من قبل مصرف لبنان.