اكتشف السوريون بعد بدء ثورتهم أنهم يعيشون في ظل نظام احتلال بالمعنى الكامل للكلمة. اسلوب العنف الوحشي الذي اعتمده الجيش وأجهزة الامن في التعامل مع المواطنين وإنكار الحق في ممارسة السياسة والمعارضة، ناهيك عن لجم الحد الأدنى من الحريات المدنية الفردية، لا يختلف عمّا تمارسه أي قوة احتلال لأرض ومجتمع معاديين.
الأهم أن النظام يرفض الشروع في أي عملية سياسية جدية لانهاء القتال وتطبيع الوضع، مستفيداً في موقفه هذا من تشتت المعارضة السورية وتفكك قدرتها العسكرية وافتقارها الى القيادة المؤثرة سياسياً وميدانياً، مقابل وحدة النظام الصلبة وفاعلية آلته العسكرية ونجاحها في انتزاع المبادرة من أيدي قوات الثورة. واقع المعارضة البائس يبرر زعم النظام انه «من دون محاور». وهو يسوّق الفشل المتوقع لمحادثات موسكو بالذريعة هذه.
الفراغ السياسي على جبهة المعارضة يفتح الباب واسعاً أمام تمدد ظواهر التطرف المستند الى أزمة المجتمع والهوية، على غرار «داعش» و»النصرة». أداة التعبير والسلطة والظهور الوحيدة التي تملكها الجماعات هذه هي العنف الأعمى، ضد من تقول انها تمثلهم في المقام الأول وضد خصومها ثانياً. ينحدر في هذه الحالة العنف الى ما دون السياسة. بل هو جيفتها المتعفنة.
نعثر على صورة مشابهة في ما يجري في فلسطين. قضت الحكومات الاسرائيلية منذ توقيع اتفاق أوسلو على أي آمال بالوصول الى سلام يتسم بحد أدنى من العدالة مع الفلسطينيين. احزاب اليمين الاسرائيلي التي تولت السلطة في الفترة الاكبر من تلك الحقبة تعبّر في واقع الأمر عن عدم رغبة المجتمع الاسرائيلي في دفع ثمن سلام مكلف تعتقد أكثرية الاسرائيليين (على ما تقول نتائج الانتخابات المتكررة) أنها قادرة على التكيف مع تبعات غيابه. غرور القوة العاتية واللامبالاة بالمأساة الفلسطينية يعيدان كل بضع سنوات انتاج حكومة هي «الأكثر تطرفاً في تاريخ اسرائيل»، حتى باتت العبارة هذه بمثابة التعريف الموجز لكل حكومة جديدة.
التشابه بين سلوك النظام السوري حيال مواطنيه وسلوك حكومة نتانياهو تجاه الفلسطينيين يبدو باهراً. فالاثنان يتكئان على فشل خصميهما (في المعارضة السورية والسلطة الفلسطينية) في تشكيل كتلة سياسية تفرض تسوية عادلة وحلاً مقبولاً.
من الجهة الثانية، يحمل انسداد الآفاق هذا على وسم العنف الفلسطيني بالسمة العدمية بمعنى تجرده من أي فاعلية سياسية. هو عنف انتقامي يستهدف المدنيين ويرد على عدم تورع الاحتلال الاسرائيلي عن قتل المدنيين الفلسطينيين بالآلاف من دون ادنى محاولة لتجنبهم. «الجيش الأرفع اخلاقاً في العالم» – على ما يحب الاسرائيليون وصف جيشهم – هو الجيش الأكثر استهدافاً للمدنيين في العالم.
وبين الدمار الفظيع الذي ينزله الاسرائيليون بالبنى التحتية والمدن الفلسطينية في كل جولة قتال اضافة الى قتل وتشريد الالاف الذين يبقون من دون مأوى، وبين تفاقم الصراع الداخلي الفلسطيني المزمن واحتلال تصفية الحسابات الفصائلية الاولوية على مشروع الاستقلال الوطني، لا يبقى أمام الفلسطيني المكلوم غير العنف المجرد من المشروع السياسي. قتل الاسرائيليين يحلّ هنا أداة وحيدة للاعتراض على واقع مقفل من كل الجهات وعلى تبرؤ القيادات الفلسطينية من مسؤولياتها التاريخية وانصرافها الى التسلي بخلافاتها المضحكة – المبكية.
يلتقي في السلوك هنا النظام السوري مع الحكومة الاسرائيلية كقوّتي احتلال وقمع وسد الطرق امام ارادات التحرر الوطني للشعبين السوري والفلسطيني، كما يلتقي عنف «داعش» و»النصرة» و»الذئاب الوحيدة» الفلسطينية، الذي يفضي في نهاية المطاف الى تزويد الاسد ونتانياهو بالحجج اللازمة لمواصلة احتلالهما. المقدمة اللازمة لوقف العنف المجرد هذا هي إحياء السياسة بمعناها المتحرك والحامل للحلول والفرص.