في إطار الثورة المضادة تتصارع سلطات المنطقة، على رغم ما بينها من تشابهات. جميعها انتقائية وجميعها تلفيقية. ثورة 2011 كانت واحدة من المحيط إلى المحيط. بعض هذه الأنظمة المتصارعة حالياً اعتبرت انتفاضة الشعب ثورة في قطر ولا ثورة في قطر آخر، فكانت انتقائية. بعضها استخدم حججاً ومبررات متشابهة لأحداث مختلفة فكانت تلفيقية. جميعها ضد حقيقة الثورة. جميعها تخوض صراعاً لا نعرف مداه؛ ربما وصل إلى الحرب. هذا يعني أن الحرب الأهلية ستمتد من مناطق محصورة لتشمل المنطقة بأسرها. ليس منا من يريد ذلك. ضجر الناس وسئموا من كثرة الخراب والقتل والدماء في هذا القطر أو ذاك. ضجر الناس من ضعف الأنظمة والقوى المتصارعة، حتى صار كل منها يستنجد بالقوى الأجنبية في سبيل الانتصار على أخيه الذي يقاتل ضده. عاد الاستعمار من بابه الواسع. عاد هذه المرة بدعوة من أهل المنطقة. لا فرق بين روسي وأميركي عندما يغزو. الغزو استعمار، والاستعمار ذل ومهانة وإعاقة، والإعاقة تعيد المجتمع خطوات إلى الوراء، ناهيك بالمتطلبات المالية لإعادة الإعمار.
كل إعدام جريمة. إعدام أصحاب الرأي جريمة أكبر. ليس بين الأنظمة المتصارعة، والأنظمة التي يدافَع عنها، إلا وفيها سجون، وفي السجون نزلاء. وهؤلاء لا نعرف عنهم إلا القليل. بالنسبة لبعضهم الموت أهون من التعذيب.
تناسى المتصارعون مطالب الناس. تناسوا أن ميدان التحرير رفع شعارات «عيش، كرامة، عدالة اجتماعية». قضايا الناس غائبة في هذا الصراع. الناس يعاملون كالقطعان. لا لزوم لهم إلا لإثبات وجهة نظر المتصارعين. هؤلاء لا يهتمون لكثرة عدد المهاجرين في البحر، الذين يموتون غرقاً، وإن وصلوا للبر الأوروبي فإنهم يعاملون ككائنات في أدنى سلم الاحترام. أما الذين يموتون، من الناس، على اليابسة من برد الشتاء وحر الصيف فهم أكثر بكثير. المائتون منهم كالأحياء، لا اعتبار لهم. هم أعداد فحسب. حتى الأرقام لم يعد لها أهمية. الشعب لا أهمية له، الإنسان محتقر. تحقيق نصر، ولو كان وهمياً، هو ما يبعث على السرور لدى الأطراف المتنازعة. حكومات تنتصر على شعوبها. مضحكٌ مبكٍ.
نحن في عداد المراقبين. الأشد هولاً أنه على كل مراقب أن يأخذ موقفاً إلى جانب هذا الفريق أو ذاك. من لا يفعل ذلك يعتبر عدواً، فاقد الوطنية، كافراً بالإسلام. الإنسانية ليس لها حساب. حقوق الإنسان في خبر كان. كل فريق من المتصارعين يعتبر أن لديه السمو الأخلاقي، يقف على جبل أعلى مما يقف عليه الآخرون، يستحق الانتصار، يستحق أن يسحق الآخرين. الدين والمذهب كان يمكن أن يفسرا بشكل مغاير. لكن أزمة الثورة المضادة تستدعي بالنسبة لهم أن يقوموا بما يحدث. كل منهم يشعر أن مواقعه في خطر. خسارة السلطة هي الخطر الأكبر. حياة الناس ليست موضع الاعتبار.
خرج العرب عقب الحرب العالمية الثانية من الاستعمار إلى الاستبداد. خرج الاستعمار من بلادنا بعسكره، لكنه استعمر الوعي قبل أن يخرج. بقيت آليات الاستعمار مستمرة من دون سيطرة أجنبية. بقيت يمارسها أهل البلاد وهم يحسبون أنهم أحرار. كرّس الاستبداد العبودية والخضوع. كان طبيعياً عندما يزول الاستبداد أن تعم فوضى التشوش في الواقع وفي الوعي. ثار الناس على الاستبداد لأنه كانت لديهم مطالب، هذه لم يتحقق منها شيء في عصور الاستعمار ولا في عصر الاستبداد. وهي أبعد من أن تؤخذ بالاعتبار في عصر الثورة المضادة، التي صارت أشبه بعصر استعمار ثانٍ.
لدى الأطراف المتنازعة إفلاس أخلاقي وفكري ومادي، خصوصاً بعد هبوط أسعار النفط إلى ما يوازي أسعاره بالقوة الشرائية في الخمسينيات. فشلت هذه الأطراف المتصارعة في بناء مجتمعات متماسكة. الاستبداد لا يبني مجتمعاً بل يهدمه. لم يعد مهماً لدى الأطراف المتنازعة سوى الاحتفاظ بالسلطة. تتهادى سيراً على جثث شعوبها. تحمي نفسها بالقواعد البرية والجوية الأجنبية، وأخيراً بالجيوش الأجنبية؛ فإذا ما اضطرت فإنها تستدعي قدوم هذه الجيوش. هذا الاستدعاء هو الجوهر الوحيد للمناقشات المتلفزة حول الجيو ـ استراتيجية الدولية. صاروا لعباً بيد الدول الكبرى. إرادة الشعوب المحلية لا ذكر لها.
ليس الصراع بين إسلام وإسلام، ولا بين العروبة والإسلام، ولا بين العرب والفرس. هو صراع بين الثورة والثورة المضادة. لا يستطيع أي منا أخذ موقف لصالح فريق من هؤلاء المتصارعين. يبقى الموقف السليم مع الناس. هؤلاء مصيرهم مجهول.
حركة الشعوب متعرجة. التاريخ لا يسير حسب خط مستقيم. عندما تثور الشعوب فإنها لا تبني نظاماً جديداً. تهدم النظام القديم. تنتهي الثورة حين تقع. بعدها يكون التأسيس لنظام جديد قوامه دستور جديد وقوانين مستحدثة وسلطات أخرى. لكن الشعوب تعيد الكرة إلى أن تحقق إنسانيتها على حساب كل الأنظمة والطبقات القديمة. هناك الكثير في الحاضر مما يدعو إلى اليأس؛ لكن لا بد أن نتفاءل بحركة الشعوب التي سوف تتجدد. سوف تتجدد بما لا نعرفه.