بدأت معالم الشرق الاوسط تظهر منذ نحو قرن، ولم يشهد تحولات شبيهة بالتي حصلت في السنوات الاخيرة داخل الدول وفي ما بينها. فللمرة الاولى جميع المكونات الجيو ـ سياسية التي تشكل الشرق الاوسط في حراك غير معهود، وإن بدرجات متفاوتة ولأسباب مختلفة: في الخليج والمشرق والمغرب ومصر وتركيا وإيران، وحتى إسرائيل.
أنظمة عالمية ظهرت وتلاشت، بدءا بمرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى، مرورا بالثانية والحرب الباردة، وصولا إلى حقبة ما بعد الحرب الباردة، إلا أن معالم الدول والمجتمعات في المنطقة ظلت على حالها. إلى أن جاء الطوفان في السنوات الأخيرة فجرف بعض الأنظمة والدول وفتح الشهية للتوسع ولاستعادة العصبيات. ولم يعد ثمة نقطة ارتكاز ثابتة للبناء عليها لمرحلة ما بعد الطوفان.
في إيران بداية، شكلت الثورة الاسلامية في أواخر السبعينيات حدثا فاصلا، أطاحت الشاه والتحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، تبعتها الحرب العراقية ـ الايرانية التي انتهت بعد ثمانية أعوام بتسوية دولية أعادت الاوضاع الى توازنات ما قبل اندلاعها. وسرعان ما حوّل صدام حسين غضبه باتجاه جيرانه العرب، فاجتاح الكويت وضمّها محافظة عراقية، فاهتزت ركائز التوازنات السياسية والعسكرية في المنطقة ومعها استقرار الاقتصاد العالمي.
حرب تحرير الكويت خلطت الأوراق من جديد ووضعت دول الخليج في موقع صعب وأدت الى حصار نظام صدام في عراق مفكك. أطلقت الولايات المتحدة «مؤتمر السلام» بين العرب وإسرائيل في 1991، مستفيدة من انهيار الاتحاد السوفياتي والزخم الذي أفرزته التحولات الإقليمية.
وفي هذه المعمعة كانت إطلالة اسامه بن لادن الأولى «لتحرير» السعودية من «الكفار»، أي من الوجود العسكري الاميركي في المملكة. وجاء الغزو الاميركي للعراق في 2003 في آخر السلسلة ليطيح التوازنات القائمة في العراق ودول الجوار. وفي عراق مشلّع ومع تراجع النظام الإقليمي العربي، برزت إيران قوة إقليمية فاعلة ومتماسكة.
في فلسطين نزاع متواصل وانقسامات حادّة داخل الصف الفلسطيني الذي ازداد تبعثراً بعد توقف المفاوضات العربية ـ الاسرائيلية ومعها الاهتمام الدولي وانطلاق الانتفاضة الفلسطينية الثانية. هكذا استطاعت اسرائيل في الوقت الضائع أن تجهز على ما تبقى من ركائز اتفاق اوسلو والسلطة الوطنية في الضفة وتنسحب من غزة، التي سيطرت عليها «حماس»، لتعيد ضربها وتطويعها. أما بناء المستوطنات والتهويد، في القدس تحديدا، فسجلا أعلى مستوياتهما في حكم بنيامين نتنياهو.
وللمرة الاولى اصطدمت إسرائيل بالرئيس الاميركي باراك اوباما الذي أعلن أن المستوطنات غير شرعية، في خطاب شهير في القاهرة في 2009، واتخذت واشنطن أخيرا موقفا غير مسبوق بالامتناع عن التصويت في مجلس الامن، فصدر القرار 2334 الداعي الى وقف الاستيطان المخالف للقانون الدولي والى عدم الاعتراف بأي تغيرات في حدود الرابع من حزيران 1967 مع تأكيد حل الدولتين. فكان رد أوباما في مجلس الأمن على نتنياهو الذي ردّ على الرئيس الاميركي في الكونغرس.
حرب تموز 2006 في لبنان جاءت من خارج سياق النزاعات الاقليمية. فالصراع العربي – الاسرائيلي التقليدي تعطل منذ سنوات، بعدما شكل سابقا المحور الاساس لقضايا المنطقة الجامعة، لا سيما في العالم العربي بين حربي 1948 و1973.
وبعد ركود طويل، جاء «الربيع العربي»، بلا مقدمات: انتفاضات شعبية بوجه الانظمة الحاكمة، ولم تكن النزاعات الاقليمية دافعها. حراك مختلف أطلقه «الربيع العربي» فلكل حالة خصوصية ولكل منطقة حصة: في الخليج انتفاضة اليمن والبحرين، وفي المغرب تونس وليبيا، وفي المشرق سوريا وقبلها العراق، إضافة الى مصر.
اليمن، ساحة نزاع قبل «الربيع العربي»، تحول ساحة حروب متعددة الأطراف والأهواء والأهداف. وفي ليبيا، صدام متداخل بين المحلي والإلقليمي والدولي من اليوم الأول للانتفاضة، أعاد البلاد الى مرحلة ما قبل الدولة. مصر وتونس حالتان متشابهتان في الشكل لا المضمون، واستقرار فرضته الأوضاع الداخلية ولم تنتهِ تداعياته وأزماته الى اليوم.
أما سوريا فحالة أخرى من النزاع الداخلي والإقليمي المدوّل، بعدما ألغت التنظيمات الإسلامية المتطرفة الحدود مع العراق، حدودا استعصى كسرها في زمن حزب البعث الحاكم في كلا القطرين. معالم تسوية النزاع السوري بدأت تظهر، إلا أن ظروف تثبيتها لا تزال بعيدة المنال، تتشابك فيها مصالح الدول والجماعات.
وفي جوار العالم العربي، تحولات غير معهودة. إيران سعت الى مواقع نفوذ اقليمي منذ عقود، إلا انها تصالحت أخيرا مع المجتمع الدولي بعد قطيعة طويلة. أما تركيا فدخلت ساحة النفوذ الاقليمي متأخرة لكن بطموحات الدولة العظمى، وسرعان ما اصطدمت مع الاتحاد الاوروبي وتوترت علاقاتها مع واشنطن واعادت تطبيع علاقتها مع إسرائيل بعد قطيعة لم تدم طويلا.
وفي البلدان المستقرة نسبيا، التحولات الداخلية في معادلة السلطة لم تكن أقل شأنا. ففي السعودية صراع أجيال ومصالح ونفوذ، وفي مصر تجاذبات حادة بين الحكم والمعارضة الاسلامية. وحتى الدول التي ظلت بمنأى عن «الربيع العربي» فلم تسلم من شظاياه إما مباشرة أو بالواسطة.
حالة واحدة معاكسة للتيار السائد: لبنان الخارج عن السياق العام للتحولات الاخيرة التي شهدتها المنطقة. ففي زمن الاستقرار العربي كان لبنان ساحة وحيدة للنزاعات الاقليمية. وفي زمن الطوفان الراهن، لبنان واحة استقرار بإرادة أهله وترحيب الغير أو عدم اكتراثهم.
حالة تغيير عابرة للدول انتشرت كالنار في الهشيم، جديدة في الشكل، قديمة في المضمون: الإسلام السياسي بجناحيه الدعوي – السياسي والجهادي المسلح. هذه القوى، وإن قمعتها الانظمة، فهي الآن في صلب النسيج السياسي والديني في دول المنطقة ومجتمعاتها، بتنظيماتها وقواعدها وعقيدتها وأهدافها، المنظور منها والمكتوم.
أما الدول الكبرى فهي الاخرى تبحث عن نقطة ارتكاز ثابتة في نظام عالمي لم تنضج محاوره أو تستقر منذ انتهاء الحرب الباردة.
كل ذلك تم دفعة واحدة واستعيدت مسائل أساسية مرتبطة بالهوية والدين والدولة، وما ينبثق منها من سلطة وتسلط. إنه بلا شك شرق أوسط متحول، وفي وسطه عالم عربي مكبّل ودول منهكة والدين في قبضة من هم الأكثر عنفا واستبدادا.
*****
في عالم عربي متهالك، بلا قضية جامعة، باتت «السفير» بلا سفارة. أوراق اعتمادها ضاعت بين ماضي الاحلام وواقع التراجيديا المحسومة والضمور الفكري والانغلاق. للأمكنة الآمنة مكانة اليوم والمغامرة محسوبة، لا تمر مرور الكرام.
فبين تحديات التحولات التكنولوجية والاقتصادية المعولمة وسطوع نجم العصبيات الاكثر تشددا وانعزالا، يغيب الصوت وتتعطل الإرادة وتعلو أصوات بلا صدى وبنبرة التابع.
لطالما سارت «السفير» في الاتجاه المعاكس للسائد في السياسة والثقافة والاقتصاد، إشارة للإنذار المبكر في زمن الرتابة والخواء. ومن صفوفها، خرج قناصل باتوا سفراء. قالت كلمتها وهي الآن مضطرة أن تمشي.
سفارة طلال سلمان لا تشبه سوى نفسها، في عالم عربي لم يعد يشبه أهله، أو الأهل الذين أنجبوا الزمن الذي أطلق «السفير» ولم يعد قادرا على الانطلاق بعدما تكسرت الاجنحة. زمن كانت السفير فيه صوت لبنان، الدور والمبادرة والحريات، في الوطن العربي، وصوت الوطن العربي الخافت في كل مكان.
* النائب.