موجة الإضرابات المتصاعدة تشلّ معظم القطاعات الحيوية في البلد، ووصلت مؤخراً إلى البنك المركزي، مع كل ما يُسببه تعطيل العمل في هذا المرفق الأساسي من إرباكات في القطاع المصرفي، وما قد يؤدي إليه من خسائر للمؤسسات المالية، والحركة الاقتصادية والتجارية، بشكل عام.
حالة التخبّط والشلل مرشحة للتفاقم في الأيام المقبلة، على إيقاع الهواجس القلقة، والمتنقلة من قطاع إلى آخر، بسبب مخاوف من تخفيض الرواتب، أو إعادة النظر ببعض التقديمات الاجتماعية لذوي الدخل المحدود، إلى آخر الإشاعات التي تُشعل غضب الشارع مثل النار في الهشيم، لأن المسألة وصلت إلى لقمة عيش الأكثرية من اللبنانيين، بعدما وصل ثلث الشعب اللبناني إلى خط الفقر، وفق إحصاءات ودراسات منظمات الأمم المتحدة.
المسؤولون يتحدثون عن إجراءات موجعة، ويطلبون من المواطنين أن يتحمّلوها، وكأن الناس الغلابى هم وراء انتشار سرطان الفساد بهذه الوقاحة غير المسبوقة في تاريخ البلد، وأهل السلطة أبرياء من ممارسات الهدر والنهب للمال العام، وعقد الصفقات المريبة بمئات الملايين من الدولارات.
سارَعوا للدقّ برواتب القطاع العام والعسكريين العاملين والمتقاعدين، ولم يُفكّروا لحظة بـ «طريقة ما» لإقفال مزاريب السمسرات والعمولات غير الشرعية، ولا في إعادة النظر ببعض المشاريع غير المجدية، وغير الضرورية في هذه المرحلة، مثل بعض السدود في قضاءي البترون وعكار، ومثل توسعة مرفأ جونيه لتمكينه من استقبال البواخر السياحية الضخمة، ومثل أوتوستراد كفر رمان – مرجعيون، الذي يكلف عشرات الملايين من دون أن يكون حاجة ملحة، تماماً كما حصل في طفرة بناء المدارس وتعيين معلمين لها، من دون أن يكون فيها الحد الأدنى من التلامذة!
وضعوا بعض التقديمات للعسكريين على طاولة البحث والتخفيض، ولكن لم يبذلوا أي جهد للكشف عن مواطن الفساد، والعمل على محاسبة الفاسدين، واسترداد الأموال المنهوبة منهم، كما فعل ولي العهد السعودي الأمير محمّد بن سلمان، وتمكّن من استرجاع أكثر من مئة مليار دولار للخزينة السعودية!
حدّدوا أكثر من موعد لإنهاء درس الموازنة وتحويلها إلى مجلس النواب، ولكن الخلافات على طاولة مجلس الوزراء نسفت كل الوعود والمواعيد، واستمرت الجلسات والنقاشات تنتقل من أسبوع إلى آخر، والبلد في حالة غليان متصاعدة، والإضرابات تنتشر مثل العدوى في إدارات الدولة، والتعطيل طال المرفأ والضمان والقضاء والبنك المركزي ومرافق حيوية أساسية، وتظاهرات العسكريين المتقاعدين والمعلمين والموظفين تعمّ الساحات وتقطع الشوارع، وخلافات الأطراف السياسية الرئيسية، ونقاشات الوزراء إلى تفاقم يوماً بعد يوم، على خلفية حسابات المصالح، والإصرار على عدم التخلي عن المكاسب الفئوية والحزبية!
ووصل الاستهتار في تداعيات هذه الأزمة الخطيرة على المالية العامة المهددة بالإفلاس، ومضاعفات اهتزاز الاستقرار الاجتماعي نتيجة التحركات القطاعية في الشارع، وإمكانية التصعيد المفتوحة على أسوأ الاحتمالات، إلى حد تأجيل عقد جلستي مجلس الوزراء السبت والأحد، لأن الوزير جبران باسيل «مرتبط» بجولات حزبية في بعض المناطق، والأولوية لالتزاماته الشخصية، ولو اقتضى الأمر تأخير إقرار الموازنة، وحصول المزيد من التأزم والتظاهرات في الشارع، وتفاقم مضاعفات الأزمة المالية الخانقة.
وإذا أضفنا إلى هذا الاستهتار، الخلافات العاصفة بين أهل الحكم على أولويات برنامج التقشف، من دون التمكن من تخطيها رغم تطويل جلسات مناقشات الموازنة، ومن دون التوصل إلى حلول وسط ، باستثناء التوافق على بعض النقاط التي تعتبر ثانوية بالنسبة لحجم التخفيض المطلوب في الإنفاق لتخفيف معدل العجز في الموازنة، ندرك حجم المخاطر المحيطة بالوضعين المالي والاقتصادي، والأسباب التي تدفع المُودعين اللبنانيين وغير اللبنانيين، إلى الاستمرار في تحويل مدخراتهم إلى الخارج!
اللبنانيون خائفون على لقمة عيشهم، ومستقبل أولادهم، بعدما دخلوا في نفق أزمة مالية مستعصية، ولا يرون بصيص نور لحل قريب لها في آخر النفق!