حيثما تتبلور إرادة دولية لا بدّ من أداة عمل لها. هل هذه حال إسرائيل الأداة، كما تتمثّل اليوم بالتحرك في الساحات السورية والعراقية واللبنانية، فضلاً عن غزة، وربما قريباً في اليمن؟ لولا موافقة روسية وتوافق أميركي – روسي لما استطاعت أن تضرب في سورية حين تشاء وأين تشاء. ولولا الغطاء الأميركي لما أقدمت على ضرب معسكرات الحشد الشعبي في العراق، ولما خرقت الهدنة في لبنان، ولما شنّت ثلاثة حروب على غزّة واضعةً الحرب دائماً على جدول أعمالها. وإذا صحّت المعلومات فإنها قد تقوم بضربات نوعية في اليمن. ذاك أن الهدف في كل هذه المواقع هو إيران وميليشياتها. وهو هدف أميركي – إسرائيلي معلن، وروسي غير معلن، في سورية. شبه معلن في العراق. مُتّفق عليه بالنسبة الى لبنان وغزّة. وغير مُتّفق عليه بعد في ما يخصّ اليمن. أي أن ثمة “تكليفاً” لإسرائيل أو أنها تتصرّف كأنها مكلّفة.
في الأسبوعين الأخيرين كرّر رئيس الوزراء الإسرائيلي عبارة “لا حصانة لإيران” في أي مكان، وبعد سلسلة هجمات تخللها سقوط طائرتين مسيرتين إحداهما انفجرت فوق معقل “حزب الله” في الضاحية الجنوبية لبيروت أمكن اختزال موقف الأمين العام حسن نصرالله بـ “لا أمان لإسرائيل” لأن “الحزب” سيردّ، وربما يردّ بالمثل إذ سبق له أنه أرسل طائرات مسيّرة استطلاعية فوق شمال إسرائيل وقد أُسقطَت في حينه، لكن يُفترض أن إيران طوّرت هذا السلاح ليصبح أيضاً هجومياً. هذه المعادلة، “الحصانة” مقابل “الأمان” أو الأمن تطرحها إيران وتحاول إيجاد إطار مؤسسي لها، إذ يجري تداول فكرة اجتماع لحكومات العراق وسورية ولبنان و”فصائل المقاومة” فيها للبحث في آلية مشتركة تحدّ من التجاوزات الإسرائيلية. وعدا دمشق غير المخيّرة والغارقة في تورّطها الإيراني، ليس مؤكّداً أن بغداد وبيروت مهتمتان فعلاً باجتماع كهذا. إذ تهدف إيران أولاً الى ضبط الردود على اسرائيل لئلّا تؤثّر سلباً على ادارتها أزمتها مع الولايات المتحدة، وثانياً الى معالجة مسألة الهجمات الإسرائيلية كأن لا علاقة لها بالتأزم الأميركي – الإيراني، وثالثاً الى إظهار أنها تدير مناطق نفوذها كما لو أنها متخفّفة من أي ضغوط.
الفارق الوحيد بين هذه المواقع هو سورية حيث تبني إيران نفوذها بقوى ليست من النسيج الاجتماعي أو الطائفي، بل تأتي بها من أصقاع شتّى وتزرعها وتجنّسها وتملّكها أملاك “الحاضرين” الذين يُطردون عنوةً من بيوتهم وأملاك “الغائبين” الذين صاروا لاجئين في أصقاع شتّى، وتستند في كل ذلك الى تحالف مع نظام يعرف أن روسيا “أنقذته” لكن إسرائيل هي التي ضمنت بقاءه حتى الآن وتستخدمه إسوة بالآخرين. ولا تقيس إيران مستوى تجذّرها الذي تأمله في سورية بقوّة الضربات الإسرائيلية لمعسكراتها بل بما أسسته من بنى لوجودها، ومنها: أولاً، تغلغلها العسكري والاستخباراتي وحاجة النظام إليها في “صيغة استانا” للتأثير في التوافقات العسكرية والسياسية. ثانياً، اختراقها المدني والاجتماعي والتشييعي للعمق السوري، مستغلّةً حالات العوز والبؤس التي فاقمتها الحرب. وثالثاً، مراهنتها على أن اللعبة الدولية، مهما كانت معادية لها، لا بدّ أن تتعامل مع “الحقائق” التي استجدّت على الأرض.
ما يدعم هذه المراهنة على اللعبة الدولية أن إيران باتت تتشاركها مع اللاعبين الآخرين، روسيا وتركيا والولايات المتحدة وإسرائيل. الجميع يدّعي العمل على استعادة السلام والاستقرار لكنهم ساهموا بدرجات متفاوتة في اشعال الحروب وتسعيرها، وتنفرد ايران بكونها تملك أوراقاً للمساومة في سيناريوات إنهاء تلك الحروب شرط التفاوض معها والاعتراف بمصالحها، وقد رتّبت أوضاعها بحيث يصعب تجاوزها في أيٍّ من البلدان الأربعة (سورية والعراق واليمن ولبنان) حيث صادرت “الدولة” واخترقت قواها العسكرية والأمنية وأنشأت ميليشيات كجيوش موازية، أو عمدت الى إلغاء “الدولة” كلياً كما في اليمن. في الحدّ الأدنى أظهرت إيران في العراق قبولاً شكلياً لـ “تقاسم” النفوذ مع الولايات المتحدة، واستغلّت فترة الانسحاب الاميركي للاستحواذ على مفاصل الدولة وترجيح كفّة ميليشيات “الحشد الشعبي”. هذه المعادلة تُطبّق عملياً في لبنان حيث يلتزم “حزب الله” الأجندة الإيرانية، مهمّشاً الدولة وجيشها، فضلاً عن الحكومة التي يشارك فيها. في الحدّ الأدنى أيضاً حجزت إيران حصّةً لها في أي حلّ سياسي عبر الحوثيين في اليمن، وفي الحدّ الأدنى تطمح الى هيمنة على الشمال في ضوء توجّه الجنوبيين الى الانفصال، وهي لم تكن بعيدة عن الانفصاليين خلال عهد النظام السابق.
أما في سورية فصارت الحسابات أكثر تعقيداً بالنسبة الى إيران، بسبب الوجود الروسي والضغوط الأميركية، كذلك مع دخول إسرائيل على الخط. كانت طهران تعتبر أن التغيير في طبيعة الحرب لمصلحة النظام سيتيح لها تخصيص جانب من إمكاناتها العسكرية واللوجستية لتهديد إسرائيل، ليس بهدف “تحرير فلسطين” كما تقول الدعاية، بل لاستدراج اميركا وإسرائيل الى الاعتراف بالنفوذ الإيراني وفقاً لشروط تفاوضية أو في أسوأ الأحوال القبول بأمر واقع إيراني في سورية. وعلى رغم أن التطوّرات ذهبت في الاتجاه الذي توقعته إيران إلا أن تفاهمات تنسيق مبكرة بين روسيا وإسرائيل قطعت الطريق على الخطط الإيرانية في شأن جبهة الجولان. ومع الوقت انقلبت الأدوار فأصبحت المواقع الإيرانية تحت التهديد الإسرائيلي، بل التزمت روسيا إبعاد الإيرانيين الى أربعين كيلومتراً أو أكثر عن الحدود. وبحسب تفاهمات شملت الجانب الأميركي أيضاً صار مطلوباً أن تُقدِم إيران على سحب ميليشياتها من سورية كشرط لا بدّ منه لمشاركة الدول الغربية في تفعيل الصيغ التي تطرحها روسيا لإنهاء الحرب وتحريك الحل السياسي وخطط إعادة الإعمار.
إذا لم يكن ممكناً إلزام إيران بسحب ميليشياتها من العراق ولبنان أو حتى اليمن، لأن قادتها وأفرادها من أبناء المجتمع وموالون لها لا لبلدهم، فإن الوضع القائم لا يمكن أن يستمر، بما فيه من هيمنة على الدولة أو إلغاءٍ لها، ومن تهميش للجيوش الوطنية ولسائر المؤسسات، ومن تعميم لسياسة الترهيب وتجاوز القوانين… ومع أن تغيير هذا الواقع مطلوبٌ بإلحاح إلا أنه بالتأكيد لن يتمّ بهذه الهجمات الإسرائيلية فهي موجّهة للضغط على إيران، وبما أن الأراضي الإيرانية نفسها غير معرّضة لهجمات في المدى المنظور فإن طهران لا تفكّر بتغيير نهجها أو سلوكها، بل تشجّع ميليشياتها على التمسك بمكتسباتها مهما كلّفها ذلك، وللميليشيات مصلحة في التشدّد دعماً لإيران في مشروعها فإذا استطاعت تحقيق أهدافها يضمن أتباعها على الأقل مستقبلهم السياسي.
لكن هذا المستقبل السياسي مع بقاء السلاح في أيديهم لا يعني أنهم سينخرطون في مشاريع استعادة الاستقرار. فقبل الهجمات الإسرائيلية، وبمعزل عنها، كان ولا يزال واضحاً أن المجتمع العراقي يحمّل الميليشيات مسؤولية شيوع عقلية الفساد في السياسة والأمن وادارة الدولة وعدم التقدّم في تعزيزها، وتبعات عدم توفير الخدمات والشروع في تنمية باتت لازمة وضرورية في كل القطاعات. كان لافتاً في بيان اجتماع الرؤساء الثلاثة مع قادة “الحشد” أنه ندّد بالاعتداءات على المعسكرات ودعا الى “احترام مرجعية الدولة”، فهذا هو مفتاح كل الحلول… ثمة تشابه بين الحالين في العراق ولبنان، مع فارق الوجود الأميركي وأمر حكومي لـ “الحشد” بالتحاق فصائله بالقوات المسلحة التي تنامت مكانتها. أما في لبنان فيستند نفوذ “حزب الله” الى ترسانته العسكرية التي يجيّرها لمقاومة العدو الإسرائيلي، لكنه يستخدمها كوطأة دائمة على الوضع الداخلي ترهيباً لخصومه السياسيين وتعطيلاً للدولة والحكومة، وبما أن العقوبات على ايران أنقصت موارده فإنه يعيش عقلية اقتصاد العقوبات ولا ينسجم مع سعي الحكومة الى اجراء إصلاحات اقتصادية ومالية تسهيلاً للاستثمارات الخارجية في المشروع التنموي المسمّى “سيدر”. ومع أن الدول لا تزال تؤكّد تعهداتها إلا أن تحكّم “حزب الله” بقرار السلم والحرب يعني أن الاستثمارات قد لا تأتي أو تأتي بصعوبة شديدة.