رغم ارتفاع حدة التوتر في الأيام الأخيرة بين واشنطن وطهران، وترافقه مع مؤتمر البحرين والحشد الإقليمي والدولي لصفقة القرن وتداعايتها على لبنان كبلد لجوء أساسي، كان لافتاً حجم اللامبالاة التي يبديها بعض المسؤولين في لبنان، تجاه حدثين من هذا النوع. لا بل ثمة ارتياح لانتقال التوتر الإقليمي إلى ساحة أخرى، ما يجعلهم ينصرفون بهدوء إلى مناقشة الموازنة والجولات السياسة الانتخابية. في المقابل، فإن قلة سياسية لا تزال تتلمس بجدية مخاطر ما يحصل في المنطقة، لأن لبنان لن يكون بمعزل عنها، بفعل الضغط الأميركي – الإسرائيلي على لبنان وحزب الله، وانعكاس «صفقة القرن» عليه.
في الأشهر الأخيرة، كادت إشارات الحرب تقترب من لبنان، وتبتعد عنه في لحظات دقيقة: حوادث الحدود مع إسرائيل، التهديدات المتبادلة بين إسرائيل وحزب الله، استنفار الجيش اللبناني لدى وقوع مشكلات حدودية، وارتفاع منسوب التوتر الأميركي (والسعودي) – الإيراني. كل ذلك ترافق مع تصعيد أميركي في وجه حزب الله، وإنذارات اقتصادية ومالية متتالية ضد لبنان والحزب على السواء. لكن مؤشرات التصعيد انحسرت لبنانياً، وبدا أن عامل التهدئة يغلب ما عداه، خصوصاً في ظل استعادة الأميركيين ديبلوماسيتهم النفطية عبر جولات السفير دايفيد ساترفيلد بين بيروت وتل أبيب، وبثّ أجواء تفاوضية إيجابية.
مع تصاعد حدة الاشتباك الأميركي الإيراني بعد قصف ناقلتي نفط، وإسقاط طائرة من دون طيار، وقرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب تشديد العقوبات على إيران، تنفس بعض المسؤولين اللبنانيين الصعداء، لأن بوادر الاشتباك لم تعد تتعلق بتحول لبنان ساحة حرب. لكن هل هذا يعني أنه سيكون معزولاً عن أي تأثيرات اشتباك بهذا الحجم الخطر، وسيعفى من تورط مباشر في أي حرب مفتوحة، وسط أسئلة عن موقع حزب الله في هذه المواجهة؟ وكيف يمكن أن يتعامل بجدية مع قضية توطين الفلسطينيين في لبنان، بعيداً عن البيانات الإنشائية، وسط كلام عن وعود وإغراءات مالية بدأ يتلقفها بإيجابية مسؤولون رفيعو المستوى؟
في مرحلة الاستعداد للانتخابات الأميركية يقال كلام كثير في واشنطن عن منحى قرار الإدارة الأميركية المتباين، لكن معظم النقاشات الجدية تدور حول فكرة أن واشنطن لا تستعجل الحرب، بل إنها تلعب لعبة إيرانية قديمة، أي المماطلة وعدم الوقوع في فخ الوقت واستدراج الآخرين إلى ملعبها. هذه المرة قد تكون إيران استعجلت في الرد والضغط حتى على حلفائها الدوليين في مواجهة لا يريدها أحد. خطورة ما يحصل في الخليج، أنه بداية الطريق وليس آخرها، فما حصل خلال الحرب العراقية الإيرانية من حرب الناقلات التي شهدها مضيق هرمز في الثمانينيات، من إصابة أكثر من 400 سفنية وناقلة نفط، يؤكد أن من المبكر الاستعجال بالكلام عن توقيت زمني لأي حرب محتملة. فقصف الناقلات كان ورقة ضغط من العراق، ومن ثم إيران التي استهدفت سفناً خليجية وأميركية، ما دفع إدارة الرئيس رونالد ريغان إلى التدخل ورفع الأعلام الأميركية على ناقلات كويتية، والرد بعنف على إيران وتدمير الجزء الأكبر من الأسطول الإيراني. وهذا يعني أن ما نشهده اليوم لا يزال في بداياته. فحتى الولايات المتحدة سبق أن أسقطت طائرة ركاب إيرانية مدنية عام 1988. الأكيد أن ثمة فوارق بين المرحلتين، لكن المواجهة الأميركية الإيرانية المباشرة، هذه المرة لها أدوات أكثر حدة ويمكن أن تشمل المنطقة كلها، نظراً إلى انتشار إيران وتوسعها، وكذلك الجيش الأميركي. ورغم أن إدارة الرئيس الأميركي لا تحظى بتغطية جامعة جمهورية وديموقراطية للقيام بردٍّ محكم على إيران كما حصل قبل عقود، إلا أن عنصر الانتخابات، والضغط الاقتصادي، يشكلان بالنسبة إلى واشنطن عاملاً مهماً ومؤثراً في أي قرار. وهي على ثقة بأن ما حققه تضييقها الاقتصادي منذ سنوات أعطى مفعوله وارتدّ سلباً على الوضع الإيراني الداخلي. كذلك فإنها واثقة من أن إيران هي التي تسعى إلى الحرب اليوم، لأنها تريد تعزيز مكانتها إقليمياً ودولياً، بينما تريد واشنطن سحب البساط من تحتها اقتصادياً وعسكرياً. وهي تراهن على عدم وقوف روسيا إلى جانب إيران وعلى دور دول أوروبا المعنية بالاتفاق النووي، بعدما باتت محكومة بمهلة الستين يوماً التي فرضتها إيران بدءاً من أيار الفائت. وقد باشرت فرنسا الأكثر قرباً من إيران، وألمانيا، تحركاً مضاداً مع تحذيرات من مغبة خرق الاتفاق.
وفيما ينتظر العالم الخطوة التالية أميركياً وإيرانياً، وسط الضغوط من جانبي حلفاء البلدين وخصومهما، تكرست صفقة القرن بكل وضوح، وبدأت إسرائيل ودول الخليج المعنية تضع ثقلها فيها، في ظل تكثيف تل أبيب اجتماعات موسعة مع دول حليفة لها لتنسيق الخطوات.
عند هذا التقاطع يقف لبنان الرسمي، وكأنه غير معنيّ بالحدثين. فيما يفترض فيه مراقبة ثلاثة مستويات: الموقف الأميركي من خلال حجم الضغط على لبنان عسكرياً وسياسياً، في ظل محاولة الاستيعاب المستمرة ديبلوماسياً عبر ملف النفط، وتوقف جولات ساترفيلد في انتظار الخطوة التالية، والإحاطة عسكرياً أميركياً وسعودياً بالجيش اللبناني، وهذا يعني محاولات سحب لبنان إلى المربع الأميركي. ومراقبة مدى استفادة إسرائيل من تداعيات المواجهة مع إيران والاستثمار الأميركي الخليجي في صفقة القرن، ولا سيما أنها استنفرت ديبلوماسيتها وجيشها حين تصاعدت حدة التوتر في مضيق هرمز مع تركيز ضغطها أميركيا لتطويق إيران وأذرعتها في المنطقة. إضافة إلى موقع حزب الله في أي مواجهة مفتوحة لن يكون الحزب بطبيعة الحال في منأى عنها كما موقفه من صفقة القرن. وإذا كان يفترض تحرك نوعي من لبنان الرسمي الرافض التوطين، على اعتبار أنها القضية التي تمسّه مباشرة، إلا أن استكمال التعامل مع الملف الفلسطيني بالصورة المعتادة يعطي إشارات عن غضّ نظر لبناني من كل الفئات السياسية، عمّا يجري، من دون نفي للوعود المالية والصفقات التي تجري في كواليس أفرقاء معنيين. هناك الكثير من البيانات الإنشائية في الأيام الأخيرة، وقد يكون حزب الله أكثر من ينغمس في ما يجري من دون القوى الأخرى. فمواجهة إيران وواشنطن وصفقة البحرين وقعت بالنسبة إلى تلك القوى في توقيت سيّئ، وتكاد تعكّر عليها انشغالها بصيف المهرجانات اللبنانية الانتخابية.