IMLebanon

لم يَعُد في حساب الموارنة رصيدٌ… للصرف

منذ إندلاع الحرب الاهلية عامَ 1975، يصرف الموارنة والمسيحيون من الحساب الذي وفّروه منذ مئات السنين، ليصلوا الى يومنا هذا وهم على أبواب الإفلاس العام.

في القانون اللبناني، يُحرَم الرجل الذي يُعلن إفلاسه من بعض حقوقه، وأبرزها حقّه في الإنتخاب، وهذا دليلٌ على أنّ الموارنة وصلوا الى درجة الإفلاس السياسي لأنّهم لا يستطيعون حتّى الآن إنتخاب رئيس للجمهورية، على رغم أنّ كلّ الأمم والملل تركت لهم حرية الإختيار على إعتبار أنّ هذا الإستحقاق مسيحيّ بامتياز، وهنا لا توجد محاكمة على النيات خصوصاً أنّ بعض الأصوات المسيحية يسأل: «هل سيَسيرون في الإتفاق إن حصل؟»، وهذه النظرية تشبه نظرية مَن سبَق مَن: الدجاجة أو البيضة.

وكأنّ الزمن الماروني عاد الى المراسلات البعيدة قبل ثورة الإتصالات والإنترنت، خصوصاً مع وجود البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي في الفاتيكان وروما، ما يعيد الى الأذهان سفر البطريرك الياس الحويك الى فرنسا للحصول على الدعم لقيام دولة لبنان الكبير عام 1920، حيث كان الإتصال بالوفد الذي يرأسه آنذاك صعباً، واللبنانيون يتوقون لمعرفة نتائج لقاءاته.

القصة نفسها تتكرّر اليوم، إذ لا إشارات واضحة تأتي من روما، سوى أنّ العقد الإقليمية والدولية ما زالت على حالها ولا جديد في الملف الرئاسي، مع تحميل بكركي عبء إنجاز الإستحقاق، خصوصاً أنّ البابا فرنسيس الذي أعاد تكليف الراعي ملف الرئاسة قال له إنّ هذا الموقع يعنينا مثلما يعني مسيحيّي لبنان، لأنه الموقع الأول والوحيد للمسيحيين من الهند الى الشرق، وعليك التحرّك لإنقاذ هذا المقام الذي يتخطّى حدود السياسة، فكان جواب الراعي: «أنا حاضر».

لكنّ هامش تحرّك البطريرك ضيق، فبعد وصول المبادرة الفرنسية الى الحائط المسدود، وإسقاط خيار تحريك الشارع من الحساب لتجنّب آثاره في هذه المرحلة الدقيقة، تراوح الحوارات المتتالية مكانها خصوصاً أنها تتجنّب الدخول في الاستحقاق الرئاسي حتى الساعة، فمِن أين سيأتي الرئيس؟

لم يعد عند الموارنة رصيد ليصرفوه، هذا حال الساحة المسيحية التي فقدت قدرتها على السيطرة حتى لو إتفق أقطابها.

فالسياسة خاضعة لموازين قوى داخلية وإقليمية، ولم تعد الغلبة للموارنة. وترى أوساط متابِعة للحوار بين «القوات» و»التيار الوطني الحرّ» أنّ «هذا الحوار يعكس تراجعاً مسيحياً، فهم يتحاورون على كلّ الموضوعات عدا الرئاسة، وبالتالي لا تظهر أيّ بوادر إتفاق في الأفق».

وحتى الذين عملوا سابقاً على خط جمع العماد ميشال عون والدكتور سمير جعجع، لا يعقدون آمالاً كبيرة على نجاح الحوار، خصوصاً أنّ ما يدعو إلى الإستغراب هو سؤال «القواتيين» و«العونيين»: «خلافنا عمره 30 عاماً، فهل تريدون حلّه بأيام؟».

وهنا يُطرح سؤال آخر: هل سيحتاج الحلّ 30 سنة إضافية؟ ولماذا كلّ هذا الخلاف والحقد؟ وهل الوضع المسيحي يتحمّل مزيداً من التدهور، أو أنه يحتاج الى عملية إنقاذٍ سريعة تنتشله من كبوته وتفتح الباب أمام مرحلة جديدة من التوافق والرؤية الموحّدة؟

لا يوجد مسيحي واحد يعارض الإتفاق القواتي- العوني، لكنّ المسيحيين يرفضون أن يعيشوا في آمال لن ينتج عنها شيء ملموس، بل ستنفجر نزاعاً جديداً بين الرجلين عندما تنتهي ازمة إنتخاب الرئيس، خصوصاً إذا بارك أحدهما التسوية الإقليمية ولم يرضَ عنها الآخر. والأمثلة على قرب الاتفاق بين الطرفين ثمّ اختلافهما كثيرة:

انفجرت بين جعجع وعون بعد 14 آذار 2005 عند الانتخابات النيابية، وبعد تسوية الاوضاع عادت المواجهة السياسية بعد رفض عون إسقاط الرئيس في الشارع عام 2005، ومن ثمّ بعدما قرّر «حزب الله» إسقاط حكومة الرئيس فؤاد السنيورة في 1 كانون الأول 2006.

والجميع يتذكر الصدامات بين القوات والعونيين في 25 كانون الثاني 2007، قبل أن تأتي تسوية الدوحة ليخوض الفريقان الانتخابات النيابية متواجهين ويتشاركا في حكومة وحدة وطنية، لتسقط حكومة الرئيس سعد الحريري عام 2011.

قد تدخل هذه الامثلة في سياق الحال الوطنية، ولا يمكن تحميل «القوات» و»التيار» وحدهما مسؤولية الصدامات، لكنّ التجربة الأخيرة والمريرة المتمثلة بتأييدهما «المشروع الأرثوذكسي»، لا تشجّع على توافق مستقبلي دائم، إذ ظنّ الجميع في حينها أنّ الأمور هدأت بينهما وعاش الشارع المسيحي أجواء مريحة وتوقّفت الحملات الاعلامية، لكنّ الأوضاع عادت وانفجرت بعد موافقة «القوات» على القانون المختلط.

هذا السرد التاريخي، مقارنة مع ما تشهده روما من غموض وتأخر كلمة السر الدولية، يدفع الى عدم التأمّل كثيراً، لأنّ الوضع المسيحي هش، والتجارب لا تشجع، خصوصاً أنّ آلية اتخاذ القرارات داخل الحكومة عادت إلى دائرة البحث والنقاش، ما يدلّ على أنّ الفراغ سيطول، وبعد التهديد بالمثالثة وطرح إسقاط بعض المناصب المسيحية، ماذا ينتظر زعماء الموارنة للإتفاق؟