لا بأس لو اكتشف اللبنانيون، كلّ على هواه، أنّ الوضع غير السويّ أبداً الذي تخضع له مؤسسات الدولة في مرحلة الشغور الرئاسي والتمديد الذاتي للمجلس النيابي وتعطيل دور المجلس النيابي في الوقت نفسه وعجز السلطة السياسية عن ادارة الشؤون التي تعني الجميع وفي مقدمتها ملف ملتهب كأزمة النفايات، هو وضع لا يمكن أن يستمر هكذا على نفس المنوال، وأنّه لا بدّ من تعديل هذا المسار، ولا يمكن تعديله كيفما كان، وأنّ للناس دوراً حيوياً في تقويم الأمور، انطلاقاً من نهوضها من الدفاع عن حقوقها، وفي مقدمتها حقها جميعها في تنشق الهواء النظيف.
لا بأس لو أقلع اللبنانيّون، كل في معتركه ونطاقه وبما اختاره من مقولات وأنماط تعبير، مغادرة التقطيعات التعسفية للزمن. لا يمكن تأجيل المسائل البيئية مثلاً الى ما بعد استرجاع كل أسباب السيادة، ولا يمكن تأجيل المسائل الحياتية والاجتماعية الى ما بعد ازهاق روح الامبريالية في المنطقة. وفي الأساس لا مستقرّ لميثاق وطني بين اللبنانيين الا بالعقد الاجتماعي. الميثاق بلا عقد اجتماعي يفسح المجال، بالتحديد، لترجمة واسعة لمقولة العدالة الاجتماعية الواردة في مقدمة الدستور اللبناني، ولا أحد يتلفّت لها، هو شيك بلا رصيد. الميثاق الوطني بلا عقد اجتماعي بين المناطق اللبنانية، لا يستتبع بعضها لبعض، ويضمن التكامل بين المناطق وخصوصية كل منها في اطار رحب من اللامركزية الادارية، لكن ايضا البيئية والثقافية، هو ميثاق هشّ.
والميثاق الوطني بلا عقد اجتماعي بين الطوائف الدينية وشتى أنماط الجماعات الأهلية، بما ينهي عقوداً من نزعات التغلّب المتعاقبة في الفشل في هذا البلد هو ميثاق ميت فاقد لحياة التجربة.
والعقد الاجتماعي اذا كان يمرّ بعقد اجتماعي بيئي لامركزي بين المناطق، وعقد اقتصادي اجتماعي يدمج الطبقات الشعبية ويعزّز الطبقة الوسطى ويكرّس تكافؤ الفرص وتنويع الأنشطة الاقتصادية مع اخضاعها اكثر فأكثر للمنظار البيئي، فإنّ لا قيمة له ما لم يكن قبل كل شيء عقداً اجتماعياً بالمعنى الصرف للكلمة، أي بين الأفراد – المواطنين، الذين هم سواسية عند احتكامهم الى القانون.
القضية هي اذاً أكثر من أي وقت مضى اعادة تأهيل الميثاق الوطني لتكون له مناعته الداخلية، وهو ما يستلزم استكماله، تحصينه، توطيده، على أساس فلسفة العقد الاجتماعي، الذي قام قسم أساسي من الفكر السياسي اللبناني بتنحيته جانباً، لصالح امتداح مسودات مواثيق وطنية تهبط من «فوق الى تحت»، وكذلك مشاريع المصالحة الوطنية.
كي تقود اهواء بعض الزعامات شريحة من الناس لتفسير الوضع غير السوي الذي يعاني منه البلد لأنه لم يؤت بفلان بعدُ رئيساً، وقد تقود حسابات مناقضة شريحة أخرى لتفسير الوضع غير السوي بما هو مستفحل من شغور رئاسي وسط انتفاء أي مبرر للنواب يتيح لهم تعطيل هذا الاستحقاق كل هذه المدة في مقابل التمديد لأنفسهم، وقد تحسبها فئة أخرى، كالحراك المدني الشبابي، على ان اول الحل كف هذا التمديد البرلماني الذاتي، والذهاب الى انتخابات نيابية، وقد يستذكر بعضنا مقولات لـ»حزب الله» فيتخوف من كل هذا، فمن ينسى خوض الحزب آخر انتخابات نيابية جرت تحت ستار «تغيير تركيبة السلطة» في لبنان، فضلاً عن الدعوة الى مؤتمر تأسيسي، وهي دعوة لميثاق وطني جديد، انما مجدداً من دون ان ينبثق عن عقد اجتماعي يوجده، ويتممه، ويصونه، ويقومه. أما «حزب الله» فيكاد لسان حاله يقول للجميع: الوقت ليس للبنانيين الآن، فالمعارك صعبة في سوريا، ومكلفة، وعليّ التركيز. في الواقع، يحتار الحزب اذا كان دعمه التشتت في الداخل اللبناني سيقوي قدرته على التركيز وسط كل هذا التشتت على الجبهة السورية، أو أن التشتت اللبناني سيجعله يمضي من متاهة الى متاهة.
هذه الحيرة تترجم عند الحزب مسعى نافراً لفرز الحراك المدني الشبابي مثلاً بين فئة مؤيدة له وفئة مناهضة، وبالتالي لمحاولة قمع الحراك من داخله، في مقابل فوبيا من هذا الحراك، ومن امكان استفادة «حزب الله» منه اعترت أخص الخصم، ومنهم من حاول الاستعاضة عنها بمساعٍ، متفاوتة، لاستيعاب الحراك او بعضه.
لكن هذا الحراك هو صورة مكثفة عما يعتري اللبنانيين ككل، من تصميم تغييري ومن تشتت وحيرة، من معضلة انه «لا يمكن ان يستمر الوضع غير الطبيعي على حاله، ولا نعرف كيف تعديله وبماذا وما نتيجة محاولتنا ذلك وما نتيجة عدم محاولتنا». هذه المعضلة يرددها كل نفر على طريقته، لكن اطمئنان القوى السياسية الاساسية الى انها معضلة تعطّل نفسها بنفسها، فيحتار كل واحد بحيرته وحيرة سواه، هو اطمئنان لا يطمئن، ويفترض به ان لا يطمئن أصحابه.