المطلوب خيال جامح وتفاؤل في غير محله للقول إن مبادرة رئيس البرلمان اللبناني نبيه بري بعقد حوار بين رؤساء الكتل النيابية، هي تجديد لأجواء ما قبل اتفاق الطائف 1989 أو ما قبل تفاهمات الدوحة 2008، وإن الحوار العتيد يمهد لمرحلة جديدة من الاستقرار تستند إلى دعم إقليمي. لا الطائف ولا الدوحة، فللعالم العربي حالياً مشاغل أكبر من لبنان، في صدارتها الحد من النفوذ الإيراني المتمادي، وقضم أجزاء من المنطقة بأنياب «داعش» وأشباهه.
ولكن، يكفي بري أنه بين قلة قليلة في لبنان تحظى بعلاقات حسنة مع السعودية وإيران، وهذا يؤهله، على الأقل، لرعاية حوار سياسي محلي، كان يمكن حصوله يومياً في مجلس النواب قبل أن يقفل أبوابه وينقل استقطاباته إلى مجلس الوزراء معطلاً السلطة التنفيذية، وفي غياب رئيس جديد للجمهورية.
إذاً، هي لعبة لربح الوقت في انتظار أن تتخطى النخبة الحاكمة خلافاتها، أو تحتفظ بها في المجال السياسي للانتقال إلى تعاون، وإن حذر، في مجال الخدمات، وأبرزها الكهرباء والتخلص من النفايات. ويبدو أن القضايا المغرقة في محليتها والتي تفتقد أي بعد سياسي، تحتاج أيضاً إلى ضوء أخضر إقليمي، بل إلى لفتة عدم اعتراض، على الأقل.
دعوة بري مجرد تذكير للنواب بواجباتهم، بل بالجانب السهل – من الواجبات- الذي لا يتطلب التزاماً سياسياً حاداً أو تغييراً في الاصطفافات، إنما أخلاقيات أساسية يكاد السياسي اللبناني يفقدها في يوميات التحريض والتكاذب وتغييب المصلحة العامة.
البند الأول من الحوار غير خدمي إنما سياسي بامتياز: البحث في انتخاب رئيس للجمهورية. فكيف يتوصّل المتحاورون إلى تسهيل انتخاب رئيس للبلاد من دون الدخول في جوهر القضية: هل يتعهد الرئيس الجديد كأسلافه منذ تسعينات القرن الماضي بالمحافظة على سلاح «حزب الله» وتصرفه الحر باستخدام هذا السلاح، أم يرفض، طالباً من «حزب الله» «نقل» قيادته من طهران إلى بيروت والاندراج في هيئة دفاع وطنية يقودها الجيش بعقيدة مواجهة العدوان الإسرائيلي وعدم التدخُّل في شؤون الدول العربية الشقيقة؟
هذا هو جوهر التأجيل المتواصل لانتخاب رئيس جديد للجمهورية بذريعة عدم اكتمال نصاب حضور النواب، فالجميع ينتظر مصير سورية لحسم وظيفة سلاح «حزب الله»، وبالتالي انتخاب رئيس. ولنعترف أن العالم القريب والبعيد ينظر إلى لبنان من خلال «حزب الله»، وقد أعلوا قضيته، سلباً أو إيجاباً، وربطوها بمصير لبنان وشعبه.
هكذا يبدو البند الأول من الحوار إقليمياً خارج أيدي المتحاورين، فيبقى لهم تشجيع الأداء الحكومي في مجال الخدمات، ومشاركة المتظاهرين الشباب في الضغط نحو الشفافية وتجاوز المحاصصة وشبهة الفساد اللصيقتين بالأداء السياسي اللبناني عموماً.
لبنان السياسي أمام طريق مسدود، لكن ذلك لا ينفي وجود طرق مفتوحة للأداء الخدمي والاقتصادي في إطار قانون واحد لشعب واحد. أما الأداء الوطني الثقافي فيبدو مفتوحاً، ويظهر في المراحل الصعبة تعبيراً عن الانتماء إلى وطن لا إلى طبقة سياسية غرقت في بئر الارتهان، منذ ياسر عرفات وحافظ الأسد اللذين حكما لبنان سنوات باسم أفراد من هذه الطبقة.
المبادرة الحوارية لرئيس البرلمان اللبناني يمكن أن تنجح حين تضخ الحياة في البرلمان ومجلس الوزراء، ولا تقتصر على تقطيع الوقت أو تعزيز تهدئة تتحقق في حوار «المستقبل»- «حزب الله»، لكن المبادرة تتطلب التواصل مع شبان وشابات في الساحات يحتاجون إلى مترجم بين لغتهم الواضحة والمباشرة والعملية ولغة السياسيين الغامضة والعمومية والنظرية. بين لغة شباب تعي سيولة الزمن وحتمية تداول السلطات، كبيرة كانت أم صغيرة، ولغة السياسيين الدهرية الجامدة.