IMLebanon

ليس بالنووي وحده تحيا المنطقة!

 

بين إعلان الرئيس الأميركي باراك أوباما ووزير خارجيته جون كيري التوصل الى “اتفاق تاريخي” مع إيران حول برنامجها النووي، وبين اعتبار وزير الخارجية الألماني فرانك – فالتر شتاينماير أن “الوقت لا يزال باكراً للاحتفال”، وبين الانتقادات الكثيرة والاعتراضات البارزة على الاتفاق، يتّضح أن ثمة تباينات واضحة حيال مقاربة ما تمّ التوصّل إليه في لوزان، وأُطلقت عليه تسمية “الاتفاق – الإطار”.

ومع بعض التحفظات عما ليس واضحاً في الاتفاق، وخصوصاً لجهة التضارب في التصريحات عما تمّ الاتفاق عليه في موضوع الجدول الزمني لرفع العقوبات وآليات التفتيش الملتبسة، فالثابت أن هذا البروتوكول إذا نجحت صياغته وتم توقيعه ووضعه موضع التنفيذ الفعلي سيضع حدّاً للمشروع النووي العسكري الإيراني ويُبعد شبح سباق التسلّح النووي عن دول المنطقة.

والواضح أن هذا “الاتفاق – الإطار” يتضمن التزامات قاسية على طهران كانت تجنّبت تجرّع كأسها المرّة طوال 18 شهراً من المفاوضات، وأهمها القبول بالتفتيش الصارم الذي ستفرضه الأمم المتحدة على منشآتها النووية للتأكد من سلمية ما يجري فيها، مرورا بحصر التخصيب في إيران في منشأة “ناتانز” مع 6 آلاف جهاز طرد مركزي فقط، وصولا الى تسليم كميات الأورانيوم المخصّب الى الخارج، وهو ما كانت إيران ترفضه بشكل كامل في السابق وتعتبره مسّاً بسيادتها.

هل ما تقدّم يعني أن “الاتفاق تاريخي” فعلاً، كما وصفته الإدارة الأميركية؟

لا تكمن المشكلة في الاتفاق – الإطار بحد ذاته، بل في اعتبار الرئيس أوباما أن خطر السلاح النووي الإيراني هو الخطر الوحيد أو الأبرز، وأنه مع تراجع خطر توصّلها الى تصنيع قنبلة نووية، أصبحت ايران شريكة كاملة في المجتمع الدولي. هذا المنطق الذي فصّله الرئيس أوباما في حديثه مع توماس فريدمان الى “النيويورك تايمس”، وإن لطّفه ببعض التطمينات الشكلية للمتخوّفين، إنما يدل على تجاهله الكامل تاريخ النزاعات وحقيقة المشكلات في منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي.

متابعة بسيطة لما يجري، من لبنان حيث أصبح “حزب الله” امتداداً للحرس الثوري الإيراني على ضفاف البحر الأبيض المتوسط على حساب سيادة الدولة اللبنانية ووحدة مؤسساتها، يتحدى العدالة الدولية ويحمي المتهمين بالاغتيالات، ينخرط في الحرب السورية ويقوم بعمليات أمنية ومالية مشبوهة عبر العالم.

ولقد عانى العراق أيضاً أسوأ الممارسات المذهبية بفعل التدخلات الإيرانية المباشرة، كما وصلت عمليات التشويش الى البحرين، قبل أن تنخرط إيران بالكامل في الحرب السورية لتبقي نظام بشار الأسد كدمية، في حين أصبح الحاكم الفعلي في دمشق الجنرال قاسم سليماني. وأخيراً وليس آخراً يدفع اليمن ثمن التدخل الإيراني عبر تدريب الحوثيين وتسليحهم ودفعهم الى الانقلاب على الشرعية اليمنية.

هذه المتابعة تؤكد أن الخطر النووي ليس الخطر الأبرز الذي تشكله إيران في المنطقة، وأن اعتماد “نظرية أوباما” حول الاتفاق النووي، فيما لو بوشر تنفيذه لناحية رفع العقوبات من دون وضع حد لطموحات إيران التوسعية، سيمنح طهران إمكانات مالية هائلة تستعملها لتحقيق أحلامها “الإمبراطورية”، وتحوّل المنطقة بركاناً تطال حممه أفريقيا وأوروبا وربما أبعد من ذلك. وعندها لن تجدي نفعاً تطمينات الرئيس أوباما اللفظية.

الخطر النووي الإيراني لم يكن يشغل يوماً بال العرب بمقدار ما كان يشغل بال الدول الغربية وإسرائيل التي لا تزال تعترض على مضمون الاتفاق. أما بالنسبة الى الدول العربية وشعوبها فإن مصدر القلق الحقيقي يكمن في إصرار إيران على مبدأ “تصدير الثورة الإسلامية” من خلال رعاية الميليشيات المذهبية العابرة للحدود في الدول العربية ونشرها، لإثارة الفتن وضرب وحدة هذه البلاد ومحاولة هزّ أمنها وفرض هيمنتها عليها. ويخطئ كثيراً من يعتقد أن ما تفعله إيران في المنطقة لا يشكّل خطراً على العالم أجمع، لأن ضرب وحدة الدول سيمهد أرضاً خصبة وبيئة مؤاتية للصراعات المذهبية المفتوحة على كل أشكال التطرّف والإرهاب اللذين سينشران الفوضى من الولايات المتحدة وكندا الى أوستراليا كما أظهرت الحوادث المتنقلة في الأشهر الأخيرة.

لذلك، فإن تنفيذ أي اتفاق مع إيران حول برنامجها النووي، إذا لم يقترن بإجماع وتصميم دوليين يفرضان تنفيذه بدقة من جهة، ويوجّهان إيران من جهة ثانية كي تكون شريكة في صناعة السلام والاستقرار في المنطقة، لا راعية للإرهاب والقلاقل داخل الدول العربية، سيعرّض المنطقة برمتها لخطر أكبر من خطر السلاح النووي. ولذلك أيضاً، فإن المطلوب إبقاء سياسة “العصا والجزرة” قائمة في التعامل مع إيران إن لم تغيّر سلوكها، كي لا تعتبر أن رفع أي عقوبات عنها يشكل ضوءاً أخضر لها لاستكمال تنفيذ مخططاتها التخريبية في المنطقة.

يبقى أن غياب الرؤية الدولية الموحدة إزاء التعامل مع إيران بعد الإقرار المبدئي لـ”الاتفاق- الإطار”، يحتّم تحمّل العرب مسؤولياتهم كي لا يتيح هذا الاتفاق مزيداً من “العبث” الإيراني في المنطقة. ومما لا شك فيه أن “عاصفة الحزم” تشكل استفاقة عربية أكثر من ضرورية، تماماً كما قرار تشكيل القوة العربية العسكرية المشتركة، بعدما تأكد للجميع أنه حين يبادر العرب فإن العالم بأسره يدعم المبادرة العربية.

واليوم، بقدر ما تكون هذه المبادرة العربية استراتيجية ومتكاملة وموحدة كما هي حازمة، بمقدار ما يستطيع العرب تحقيق التوازن المطلوب لردع إيران ومواجهة أي اختلال محتمل في تنفيذ الاتفاق النووي، والتأكيد أن مصلحة الجميع، بمن فيهم إيران، تكمن في إقامة شراكة حقيقية في المنطقة مبنية على قواعد احترام سيادة الدول ووحدتها واستقرارها وعدم التدخل في شؤونها الداخلية. هكذا تعبر إيران في مسار عودتها الى حضن المجتمع الدولي ممراً إلزامياً عنوانه تطبيع علاقاتها مع محيطها الخليجي والعربي. فليس بالاتفاق النووي وحده تحيا المنطقة.