Site icon IMLebanon

لا أحدَ يحمي الأقلّيات…

النزاع العسكري وإفرازاته الطائفية في سوريا ولّد مخاوف حقيقية، خصوصاً مع وجود عناصر مأجورة من النظام، وأخرى جهادية متطرّفة تدّعي المعارضة، وهي بعيدة كلّ البعد من ثقافة التعايش الإجتماعي السوري.

حادثة قرية قلب لوزة في ريف إدلب، التي سبّبت ضجة إعلامية كبيرة قبل أسابيع، هي جزءٌ من إفرازات عسكرة الطوائف من دون أدنى شك، وطبعاً الطرف الأكثر تضرّراً فيها هو الطرف غير المسلَّح.

ولنكن دقيقين أكثر، فالطائفتان السنّية والعلويّة هما الطائفتان الأكثر تسلّحاً في سوريا، أما باقي الطوائف وتحديداً «الدرزية والإسماعيلية والمسيحية» فهي بمثابة الكومبارس في مسرح مُتخَم بالدم، وللأسف فإنّ كلا طرفَي النزاع العسكري الطائفيَّين يتاجران بهذه الأقليات مدعيَين حمايتها، ولكن إن تمعّنا بالتفاصيل الدقيقة ندرك أنّ كلاهما لا يستطيعان حماية نفسيهما كي يحميا الأخرين.

فالنظام بدأ أول عمليات انسحابه العسكرية يوم 11/12/2012 من القرى المسيحية في محافظة إدلب وتحديداً من قرى (الجديدة «الارثوذكسية»، القنية «اللاثين») وبعد شهر انسحب من قرية «اليعقوبية الأرمنية» بتاريخ 27/1/2013 بعد مقاومة هزيلة، كما سلّم مواقعه العسكرية من دون أيّ طلقة رصاص في قرية الغسانية «الارثوذكسية+ لاتين» بتاريخ 3/10/2012.

المهين في خطاب النظام أنّه يدّعي حماية الأقليات وفي الوقت ذاته يستخدم باحات الكنائس في القرى كمنصات لاطلاق الصواريخ ضدّ المعارضة المسلَّحة، على رغم وجود مساحات واسعة بعيدة من الكنائس يستطيع نصبَ مدفعيّته ودباباته فيها!!!

هذا الأسلوب القميء لم يُستخدم حصراً في القرى المسيحية في إدلب بل نراه في القرى المسيحية من محافظة اللاذقية ايضاً كقرى «كنسبا، القصب، الغنيمية»، ما يعطينا انطباعاً واضحاً مفاده أنّ النظام يستخدم سياسية طائفية ممَنهَجة، يحاول فيها استثمارَ الأقليات ولصقها بصفّه سياسياً من دون أن يقدّم لها دفاعاً حقيقياً في اللحظات الحرجة.

ولا بأس عنده إن تمّت تصفية هذه الأقليات جميعها طالما أنّه سيستثمر هذا الحدث إعلامياً لمصلحته، وعندما لم يكترث المجتمع الدولي لخطته بدأ بعمليات القصف العشوائية نحو تلك القرى متذرّعاً بأنّها مواطن للإرهابين، فدمّر بناها التحتية كاملة وحرمها من خدمات الهاتف والكهرباء ممّا جعل إمكانية الحياة فيها شبه مستحيلة بالاضافة الى أنّها غير آمنة فاقتصر وجود الأقليات فيها على الهرِمين عمرياً.

في الجانب الأخر من المعارضة المسلَّحة نرى نفاذاً كبيراً للمتطرفين من الكتائب غير السورية، والتي بادرت إلى محاولة تنظيم الأمن في القرى الخارجة عن سلطة النظام «المحرَّرة كما تسمّيها» عبر تنظيم محاكم شرعية فيها من الفساد ما يشابه المحاكم الموجودة عند النظام السوري الفاسد، وهذه المحاكم غير ثابته المنظور في قراراتها لأنّها ترتبط بشخصية القاضي الشرعي ومدى فهمه ونضجه للثقافة الدينية الإسلامية.

بعد الضجّة الإعلامية بشأن مجزرة الدروز من قبل أحد قيادات تنظيم النصرة نرى بياناً رسمياً من التنظيم مفاده أنّه سيعاقب المذنبين، ونحن نتساءل اليوم هل العقاب هو فقط للإعلام أم لمحاولة تلطيف ماء الوجه، الجريمة واضحة والضحية فيها 20 فرداً مقابل مجرم تنظر له النصرة على أنّه جهاديٌّ بطل، ومن المؤكَد أنّ عقاب الاعدام الذي يُفترض أن يصيب هذا المجرم وفق الشرع الإسلامي لن يتمّ كي لا ينزعج باقي الجهاديين غير السوريين ويتحوّلوا من النصرة نحو كتيبة أخرى!!!

ايضاً هذه المحاكم الشرعية التي تدّعي العدل سلبت الكثير من السوريين ممتلكاتهم، وباتت توزّعها على أُسر نازحة من دون مشورة المالكين الاصليين وهذه السياسية تذكّرنا بحقبة التأميم الناصري والبعثي التي أقصت الكثير من النخب السورية والمصرية بحجة دعم الثورة ونصرة الطبقة الكادحة آنذاك.

التنظيماتُ الأكثر تطرّفاً من تنظيم النصرة كتنظيم الدولة الإسلامية هي أيضاً تنظيمات قاهرة للشعوب ولكرامتها، فهي أول التنظيمات التي اتخذت من احدى الكنائس في مدينة الرقة مقراً أمنياً لها، وهي مَن كفّرت الأقلية الأيزيدية وباعت نساءها كسبايا، ولم ترحم العشائر السنّية التي تعارضها فقتلت المئات من عشائر الشعيطات وبونمر.

وإن تمعّنا في تصريحات «أبو محمد الجولاني» في قناة الجزيرة ضمن برنامج «بلا حدود» نراه شديد الوضوح في توجيه خطابه تجاه أبناء الطائفة العلوية عندما وعدهم بعدم العقاب إن تخلّوا عن نظام الأسد، على رغم أنّهم نكّلوا سابقاً بالسنّة. واللّافت في خطاب زعيم النصرة أنه لم يتطرّق لفكرة أنّ النظام نكّل بالمسيحيين وممتلكاتهم في ريف إدلب

وبممتلكات السنّة والسبب بسيط وهو أنه ينظر لتمايزية تراتبيّة بين فئات المجتمع السوري، معتبراً السنّة قادة الأمة الإسلامية من ديار الشام، وهذه التمايزية لا تخلق ثقافة مواطنة سورية بل تخلق ثقافة طائفية شعبية مشابهة تماماً للثقافة السائدة زمانَ هيمنة النظام الأسدي، فعلى رغم ترداد الشعب شعارات الاشتراكية كانت الدعابات الطائفية المتداوَلة شارعياً وبرعاية أمنية هدفاً نحو ترسّخ حال القهر الطائفي ولعلّ أبرزها:

أن «تسأل المعلمة الطالب «علي» ماذا ستصبحُ في المستقبل ليجيب: سأصبحُ ضابطاً مثل خالي أو وزيراً مثل عمّي. ثمّ الطالب «عمر» عن حلمه وليردّ بدوره بصوتٍ منخفض أريد أن يصبح اسمي علي).

وحقيقة الطرفين الطائفيَين العسكريين في سوريا بمختلف تفرّعاتها هي أنهما طرفان غيرَ وطنيين ولا يمثلان الشعب السوري الطامح إلى الحرية والعدل والكرامة، ولا يمكن التعويل عليهما ضمن مفاضلة هذا أفضل من ذاك، فكلاهما طائفيان ويرغبان بالثأر إن تفوّق أيّ منهما على الآخر.

ومشروع سوريا المستقبل بكلّ تأكيد لن يكون عبر هذين الخيارين على رغم أنّهما الأوضح الآن، ولكنه سيكون عبر فريق تكنوقراط نزيه مدعوم أُمَمِيّاً بعد قرار حلٍّ سياسي يحفظ كرامة ما تبقّى من الأكثرية والأقلّية.