شكّل انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية محطة مفصلية في تاريخ جمهورية «اتفاق الطائف» لجهة تصحيح الجانب الميثاقي بأبعاده الثلاثة: رئاسة الجمهورية إضافة الى مجلسي النواب والوزراء.
أحد أبرز عوامل الاستقرار السياسي في اي دولة في العالم يكمن في شعور المواطنين فيها، أفراداً وجماعات، بأنهم غير مهددين في وجودهم وتمثيلهم السياسي. وبالتالي، المدخل الى الاستقرار في موازاة السيادة هو الشعور بعدم الاستهداف، الأمر الذي يفسح المجال لنقل الاهتمام من القضايا الوجودية والمصيرية الى الشؤون الحياتية.
ومعلوم انّ أحد الجوانب الأساسية للحرب اللبنانية كان شعور الطوائف الإسلامية بعدم المساواة في السلطة والذي كان يُبرَّر مسيحياً بالخشية على نهائية الكيان اللبناني ربطاً بتبدية المكوّن المسلم البعد العربي على الحيّز اللبناني، وهذا الشعور نفسه انتقل الى المسيحيين بعد الحرب واستمر الى انتخاب عون رئيساً للجمهورية وإقرار قانون الانتخاب الحالي. وبالتالي، لا يجوز الاستمرار في الدوامة نفسها بشعور طائفة من الطوائف في مرحلة من المراحل أنها مستهدفة وغير ممثلة في الشكل المطلوب.
وقد حاول الشهيد رفيق الحريري تطمين المسيحيين الى انّ المناصفة ثابتة ونهائية وانه تمّ إيقاف العدّ في لبنان، وذلك من أجل تحقيق الاستقرار السياسي وقطعاً للطريق امام السعي المتواصل لكل فئة من أجل تغيير النظام عند كل متحوّل ديموغرافي، الأمر الذي يُبقي البلد في حالة حرب باردة متواصلة، ويحول دون الاستقرار المنشود. ولكن طبعاً بقيت نيّات الحريري من دون الترجمة المطلوبة، بفعل الوصاية السورية التي كانت تستهدف المكوّن المسيحي بسبب رفضه استمرار وصايتها على لبنان.
وفي الوقت الذي كان الرهان على خروج الجيش السوري من أجل معالجة الخلل الميثاقي، الّا انّ هذا الأمر لم يحصل، وهذا ما دفع البطريرك مار نصرالله بطرس صفير إلى إطلاق جملته الشهيرة «الدستور أعطانا 64 نائباً ونريد 64». وقد استمر الخلل الى لحظة إدراك العماد ميشال عون والدكتور سمير جعجع استحالة تصحيحه إلّا عن طريق تفاهمهما وتقاطعهما. ولو لم يكن عون في بعبدا وخاضَ وجعجع مواجهة بلا هوادة وكادت أن تسقط التسوية، لَما أقرّ القانون الحالي.
والمشكلة البنيوية في حركة 14 آذار كانت في عدم إعطاء الأهمية للجانب الميثاقي، وتحديداً للتمثيل المسيحي الصحيح، وكانت الحجة باستمرار تكمن في انّ الأولوية للمواجهة السيادية، وذلك من اجل الإبقاء على الخلل لخلفيات سلطوية، ولم تجد كل المحاولات للاتفاق على قانون انتخاب جديد يطوي صفحة الانقلاب السوري على «اتفاق الطائف»، وهذا الهدف الميثاقي لم يتحقق، ويا للأسف، الّا عن طريق تقاطع عون وجعجع ووضع كل ثقلهما لإقرار قانون انتخاب جديد، فيما كان يفترض ان يتحقق من خلال مربع وطني لا مسيحي، إنطلاقاً من الشعور الوطني والمسؤولية الوطنية بتجسيد الشراكة داخل الدولة ومؤسساتها.
ووظيفة قانون الانتخاب في لبنان ليست كلاسيكية، على غرار اي دولة ديموقراطية في العالم تهدف إلى تحقيق تداول السلطة، فهذا الجانب أساسي ومهم جداً، ولكن في دولة مثل لبنان هناك جانب آخر يفوق تداول السلطة أهمية ويتعلق بالبعد الميثاقي الذي من دونه لا معنى للبنان. وبالتالي، أي قانون انتخاب لا يحترم صحة التمثيل للمجموعات اللبنانية لا قيمة له، بل يضرب جوهر تداول السلطة ويحوِّله استحقاقاً إجرائياً شبيهاً بالدول الديكتاتورية التي تنظّم انتخابات صورية للتغطية على استئثارها بالسلطة.
واي دولة تحترم نفسها لا تغيّر قوانين الانتخاب عند كل استحقاق انتخابي، كما لا يمكن تحقيق الاستقرار السياسي في ظل هذا الجو، فضلاً عن أنّ أي محاولة للبحث عن قانون جديد يجب ان تترجم الجانب الميثاقي، وخلاف ذلك لا قيمة لأيّ قانون انتخاب، و»القوات اللبنانية» و»التيار الوطني الحر» لن يتساهلا في هذا الأمر، ولا عودة إلى الوراء. وبالتالي، ليس مهماً اسم القانون او شكله، إنما المهم ان يستوفي شروط الميثاقية بتجسيد الشراكة المسيحية – الإسلامية.
والقانون الحالي ألغى المحادل والبوسطات بحكم وجود الصوت التفضيلي، وقد أظهر حجم كل فريق على حقيقته، وفيما حافظت المكونات الإسلامية على تمثيلها الصحيح، نجح المسيحيون للمرة الأولى منذ العام 1992 في انتخاب ممثليهم الفعليين بعيداً عن الرافعات غير المسيحية. وبالتالي، أعاد هذا الانتخاب تصحيح الخلل الميثاقي، ولا مصلحة وطنية في محاولة ضرب هذا الإنجاز الميثاقي الذي يدخل في صلب معنى لبنان وجوهره، وإذا كان من تعديلات مطلوبة على هذا القانون من أجل تحسينه بسبب الثغرات التي ظهرت مع تطبيقه، فمن الضروري إقرار البطاقة المُمغنطة التي تسمح للمواطن بالاقتراع من أي مكان، الأمر الذي يرفع من نسبة المشاركة ويحد من التأثير على اتجاهات الناخبين، كذلك من الضروري إلغاء الفقرة المتصلة بانتخاب نواب للمغتربين وكأنهم في حالة انفصالية عن لبنان وعن هموم مناطقهم وشؤونها، بل يجب الحفاظ على ارتباط المغترب بمنطقته وبيئته وتوجهات بلده، والمشاركة الاغترابية في الاقتراع أعادت الحيوية الى الجسم الاغترابي الذي وجد نفسه للمرة الأولى في صلب الحياة السياسية اللبنانية، ومن المتوقع ان تتضاعف المشاركة في الاستحقاق المقبل كون شريحة واسعة من المغتربين لم تكن واثقة من نيّة السلطة في لبنان منحهم هذا الحق الذي بقي وعوداً صوتية بسبب الرفض السوري له للاعتبارات السيادية المعروفة، وبالتالي المطلوب الحفاظ على ارتباطهم بلبنان وليس فصلهم عنه.
وتأسيساً على كل ما تقدم، فإنّ أحد أبرز إنجازات التسوية القائمة إعادة الاعتبار للمفهوم الميثاقي ببُعده التمثيلي المجسّد في التوازن بين الرئاسات الثلاث، وداخل مجلسي النواب والوزراء، ولا عودة إلى ما قبل 31 تشرين الأول 2016.