الحكومة تدعو المنتفضين ضدها لضبط النفس وزحمة الوعّاظ من خطر الفتنة تثير الإستغراب!
يتسارعُ سقوطُ لبنان إلى ما دونَ الهاوية. كلُّ شيءٍ ينهار كبرجٍ من ورق. استفاقَ اللبنانيون، لكن متأخرين، على الثورة ضد طبقة سياسية وحزبية أفسدت كلّ شيء.. حرفياً كلّ شيء. يصعبُ العثورُ على أيّ قطاع أو مؤسسة أو إدارة لم ينخرها الفساد حتى العمق، وبات الإصلاح وفق المنطق الطبيعي للأمور يفترضُ، جبراً، حصول انهيار شامل قبلَ إعادة التأسيس. أغلبُ الظنّ أن الطبقة السياسية أرادت هذا الأمر، وربما خططت ليومٍ يثورُ فيه الشعبُ ضدهم فيجد نفسه بين حدّين: الرضوخ صاغراً لاستبداد المافيات المتحكّمة، السياسية والحزبية والمصرفية في ظلّ الراعي الرسمي المسلح، مع ما يعنيه ذلك من ذلّ وترهيب وقبول بالسلاح والمليشيات والفساد.. أو المطالبة بالإصلاح (الصعب إلى درجة الاستحالة) وبالتالي جرّ البلد للفوضى والفراغ بعد الانهيار والجوع والافلاس!! المؤلم – والمثير للأسئلة في آن – كيف سمح المجتمع الدولي لهذه المجموعة بالوصول بلبنان الى هذا القعر؟ ولماذا لا يدرك المنتفضون مخاطر التشظي وغياب البرنامج وخلط الأولويات على فعالية الثورة؟!
نزولُ الناسِ إلى الساحات والشوارع، والحالُ هذه، تحصيلُ حاصل، لا يحتاج مبرراً أو تعداد المسببات. بل إن عدمَ خروجِ الناس بوجه العهد والحكومة والطبقة السياسية والمصارف والكارتيلات والمافيات رفضاً للأوضاع المعيشية الصعبة واستفحال الفساد، وضدّ سرقة الرغيف ولقمة العيش وانهيار قيمة العملة والتلاعب بالدولار وسرقة الودائع وغياب الخدمات وفقدان الثقة، وضدّ الحدود المشرّعة على التهريب وزراعة المحاسيب والفاسدين في الإدارات وللمطالبة بقضاء نزيه وبالمحاسبة والتغيير، وقبل كل ذلك جميعاً ضدّ التفريط بالسيادة الوطنية واستعداء المجتمعين العربي والدولي.. هو المستغرب.
الحديث عن السلاح يُراد منه، أولاً، رفعُ اليد عن الدولة ومؤسساتها، وعن السياسة الخارجية، ووقف تجاوز القانون واستباحة الحدود تحت وهجه ووهمه
الفوضى لتشويه الثورة
ما حصل ليل السبت الماضي من انقضاض على تحركات الناس، والاعتداء على المقدسات، وهزّ السلم الأهلي.. ثم لملمة المشهد في اليوم التالي كأن شيئاً لم يحصل.. يجعل بحثَ مسألة السيادة المنقوصة تتقدم كل الاعتبارات، من دون اغفال ما يتفرّع عنها من أزمات كالفساد والهدر والنهب والمحاصصة، وما تتطلبه المعالجة من برامج وخطط وخطوات.
ما جرى أن طرفاً – أطرافاً أرادت تحويل غضب الناس الى مشروع فتنة لتشويه الانتفاضة، وتخويف المعترضين على أداء السلطة الفاسدة. فـ «كمن يقتل القتيل ثم يمشي بجنازته» ثمة من صنعَ الفتنة، وأرهبَ الآمنين، واعتدى على المقدسات ثم راح يُناشد ويُحذر ويُدين!! ملفتةٌ كانت بيانات ضرورة وأد الفتنة من بعض الأطراف المتورطة بها، والملفت أكثر أن تتسارع الفتاوى ومقاطع الفيديو وكأننا أمام نقاش لاهوتي – فقهي، لا أمامَ تَخابثٍ يُسيّس الدين، ويستجرُّ الفوضى والاشتباك الأهلي وردات الفعل ليحرف النظر عن قضايا عاجلة وضرورية بالإساءة إلى المعتقدات.
ثم من قال ان انتفاضة 17 تشرين مطلبية فقط، وليست سياسية؟ ومن قال إن رفع الصوت ضدّ الفساد والنهب والمحاصصة وضرورة استقلال القضاء لا يحمل وجهاً سياسياً يرتكز إلى رفض التحالف القائم بين السلطة والسلاح غير الشرعي، من جهة، ومن جهة ثانية إلى رفع الصوت بوجه العهد والحكومة والمصارف؟
السلاح لحماية السلاح فقط!
في التقدير؛ لن يقف أيّ شيء أو اعتبار أو حساب أو تقدير – بما في ذلك الانزلاق للاعتداءات المنهجية والمتكررة – أمام «حزب الله» في سياق ما يعتبره دفاعاً عن سلاحه، الذي هو معنى وجوده وهيمنته وغَلَبَته وقوته وفاعليته. لا قيمةَ لبعضِ التعابير الفضفاضة وغير الدستورية التي فُرضت في بعض البيانات الوزارية لشرعنة هذا الواقع. نعم، لقد فشل الحزبُ عندما عجز عن إيجاد مبرر متوافق عليه وطنياً لاستمرار تمسكه بهذا السلاح، ثم جاءت الاعتداءات المتكررة والمحطات السياسية الداخلية لتكرّس هذا الانقسام حيث جرى استخدام فائض القوة لإظهار الغَلَبة والتخويف والإرعاب وحماية الفساد وفرض معادلات سياسية وتعطيل الحياة العامة والوطنية..
كان على الحزب أن يتيقن أن مسألة السلاح، غير المتوافق عليها داخلياً وغير المقبولة دولياً، ستتحول مادةً خلافية وسجالية ومتفجرة في أي وقت، خصوصاً وأن هناك قرارات دولية (1559 و1680) تجعل من سلاحه سلاحاً غير شرعي، وأمام هذا الواقع لا ينفع التذاكي على الطريقة اللبنانية. ولأن حلّ هذا الملف ليسَ داخلياً فقط، يجب التنبيه أن الحديث عن السلاح لا يُقصد به السلاحُ بحدّ ذاته، بل يُراد منه، منذ زمن، رفعُ اليد عن الدولة ومؤسساتها، وعن السياسة الخارجية، ووقف تجاوز القوانين واستباحة الحدود تحت وهج الشعور بفائض القوة، قبل الانتقال إلى مستويات أخرى من النقاش.. وهذا جوهر كثير من المواقف السياسية والمبادرات الوطنية بهذا الشأن.
إعتداء لا حرب!
ما جرى مساء وليل السبت الماضي (سواء في وسط وأحياء بيروت، أو على محور الشياح – عين الرمانة)، تكرر بأشكال مختلفة خلال السنوات الأخيرة عشرات المرات (وأهمها ما جرى في بيروت ومناطق الجبل في أيار 2008)، لأسباب عديدة ومتنوعة وصادمة أحياناً؛ نحن أمام ثقافة ترى في الاعتداء المتكرر منهجية ثابتة في التعاطي مع الشريك، ولسنا أمام حرب أهلية، لأن الحرب تقتضي وجود طرفين يريدانها، أولاً، والواقع أن المكونات السنية والمسيحية والدرزية لا تريد حرباً أهلية جديدة، وليسوا مستعدين لها أصلاً، وطالما الوضع هكذا فالاعتداء يستدعي ضرورة الوقوف بوجهه لحماية السيادة والاستقرار والسلم الأهلي والمواطنة، ولصون الشراكة الوطنية والخصوصيات الطائفية والمذهبية.
ولأن ثقافة استسهال الاعتداء ورسم خطوط التماس لا تزال تتحين الانقضاض في أي لحظة على الشريك، بالرغم من مرور 30 سنة على الانتهاء «النظري» للأعمال القتالية في لبنان بعد اتفاق الطائف في 1989؛ لم تتعافَ الدولةُ، ولا الاقتصاد، ولا الاستقرار، ولا العيش الواحد، ولا النمو، وفوق ذلك بقي السلم الأهلي هشّاً، والمواطنة مفقودة، بفعلِ أطرافٍ تحمل أحلاماً وأطماعاً هدّامة ولم تستخلص العبر من إرث الحرب الثقيل. هذه الأوهام سمحت – بسبب التعقيدات اللبنانية – لطائفيين، وعقائديين، وحاقدين، وشعبويين، وسماسرة، وفاشلين وناهبي المال بتَسيّد المشهد، واستنزاف البلد، وتقاسم مكاسب السلطة.. وكل ذلك حالَ، وما يزال، دون تجديد حقيقي للعقد الاجتماعي، بشروطه المعتبرة، كمدخل للتسوية التاريخية بين اللبنانيين وإعادة بناء وطنهم.
السؤال هنا، كيف نلغي خطوط التماس من وعي هؤلاء ونغرس مكانها مجموعة حقائق جديدة نبني على أساسها الغد بشكل مشترك وعلى أسس صلبة؟ حقيقة أن حماية النظام ليست من مسؤولية الطوائف أو ميليشياتها، بل مسؤولية المواطنين جميعاً من خلال مواطنة كاملة ومتساوية، وحقيقة أن الدولة ضعيفة أو مستضعفة، وحقيقة أن الاستسلام للخارج، أيّ خارج، هو ارتهان يستجلب ذلاً ودماراً وتفكيكاً للعقد السياسي والاجتماعي، من دون أن ينتج أية مكاسب، وحقيقة أن التنوع قيمة مضافة، وأن الاختلاف سُنة إنسانية مشروعة، وأن التماهي مع القضايا الخارجية لا ينبغي أن يتقدم على المسألة الوطنية في شيء، وحقيقة أن اللجوء الى الحوار لحل المشاكل والخلافات ضمن التعدد هو ما يميّز هذا الوطن ويجعل منه نموذجا للتلاقي، وحقيقة أن الطبقة السياسية فشلت في بناء دولة مستقرة، واستنزفت مقدرات البلد والمساعدات الدولية لمصالحها الخاصة، وفوق ذلك عطّلت القضاء وفرّغت الإدارة والمؤسسات، ومنعت التغيير من خلال تفصيلها لقوانين انتخاب على قياس مصالحها فمنعت تجديد الحياة السياسية. هذه بعض أسباب ثورة الشعب، وعلى الجميع تفهّمها، وهنا بداية تصويب البوصلة الوطنية، وتكوين المشهد الجديد.