لو عاد الأمر للجيش لفَعلَ الكثير، أو على الأقلّ لقال الكثير، فلا يُلقى عليه أيّ لوم. لكنّ الجيش صابر صامت: الكوابح السياسية تُفرمِله. وهناك ماء في فمه يحتفظ به، لعلّ المداراة أفضل من المجاهرة، ولعلّ الوقت «حَلّال المشاكل» و«قَطّاع المراحل» على الطريقة اللبنانية!
خرجَت إلى الضوء أسئلة كثيرة كانت حتى اليوم همساً في الدوائر المقفلة، ومنها: هل التحدّي الذي يخوضه الجيش، خصوصاً في بقعة الهرمل – القلمون، يمكن أن يعرِّضه للاهتزاز؟
ويرجِّح كثيرون أن يكون إعلان بضعة ضئيلة من جنوده انشقاقَهم عنه، والتحاقهم بـ«داعش» و«النصرة»، مسألة فردية عابرة، وقد سبق للمؤسسة العسكرية أن عاشت مثيلاً لها خلال الحرب الأهلية وبعدها. لكنّ البعض يحذَّر من مغبّة إهمال هذه الظاهرة وتجاهلها، لأنّ المرحلة الراهنة قد تنطوي على مخاطر استثنائية.
ففي خلال الحرب الأهلية، انقسمَ الجيش طائفياً، واستثمرت القوى الإقليمية والدولية هذا الانقسام، لكنّ معالجة الوضع كانت أسهل. أمّا الانقسام اليوم فهو جزء أصيل من النزاع بين القوى المذهبية الإقليمية. والوكلاء المحَليون لا يفعلون شيئاً سوى انتظار التعليمات من هذا المحور أو ذاك. ما يعني أن لا سلام داخلياً ما دامت الحرب دائرة إقليمياً. وثمّة حاجة إلى إبعاد الجيش عن هذا النزاع ليتمكّن من أداء دوره.
إلّا أنّ معظم المتابعين يميلون إلى الاطمئنان، لا الخوف، على الجيش استناداً إلى الثابتة الآتية: ليس لبنان معرَّضاً للإنهيار كدولة. ولذلك، وعلى رغم الفراغ في بعض المواقع والتنازع على أخرى، فإنّ هناك مؤسساتٍ مرجعيةً بقيَت فوق المنازعات والشكوك، ومنها المصرف المركزي والأجهزة الأمنية، لكن الجيش يبقى طليعتها.
وإذا ما قُدِّر استهداف البناء الداخلي للجيش، فإنّ ذلك سيكون إشارة مؤكدة إلى أن لبنان معرَّض للإنهيار كدولة ذات سلطة مركزية، وهو ما يستبعده كثيرون ويقولون: حتى اليوم، تَعرَّض لبنان لاهتزازات خطرة كادت تقوده إلى المجهول، لكنّ الغطاء العربي- الدولي كان يصونه في اللحظات الأخيرة.
والجيش، منذ تجربة 14 آذار 2005، مروراً بتجارب طرابلس وعبرا ونهر البارد و7 أيار 2008، أظهر مناعةً قوية في وجه التشقُّقات، خلافاً للجيشين السوري والعراقي اللذين لم ينقسما مذهبياً في شكل كامل، لكن هناك أجزاء واسعة منهما إنحازت إلى «داعش» والتنظيمات الرديفة.
وأظهرَ نموذج الأنبار والموصل أنّ في الجيش العراقي ضبّاطاً وأفراداً سُنَّة سلّموا الثكن والمواقع العسكرية لـ«داعش» بلا مقاومة أو بالتواطؤ. وربّما تحاول «داعش» تطبيق نموذجي العراق وسوريا في استدراج بعض من جنود الجيش اللبناني، ولكنّ طموحاتها لن تتحقّق. فلبنان ليس ذاهباً إلى التفتُّت والنزاعات اللامتناهية، كما سوريا والعراق.
ولكن، لا يمكن المغالاة في المراهنة على مناعة الجيش، وهناك سقف لا يجوز للقوى السياسية أن تستمرّ في تجاوزه، لئلّا يصاب الجيش بالإرهاق. وليس لهذه القوى أن تخاطر بتمرير رسائلها من خلال الجيش، كما يحدث مراراً.
فاللحظة اللبنانية الراهنة تفوق بمخاطرها كلّ سابقاتها. والتجربة الحالية في بقعة عرسال- الهرمل- القلمون السوري، وتداعياتها في عكار- طرابلس، تُتعب الجيش لأنها حافلة بالتحديات المذهبية ذات الأبعاد الإقليمية.
ويبذل الجيش أقصى جهوده ليحافظ على حياده الوطني، فيما قطبا المعركة يزدادان احتقاناً، وكلٌّ يرغب في الإفادة من الجيش: الشيعة يضغطون للحسم العسكري، والسنَّة يزدادون تململاً. وثمّة مَن يسأل: مع الانشقاقات الاستعراضية، هل باشرَت «داعش» و«النصرة» إطلاق الرسائل للجيش لينحاز عن نهجه، فيما تنبري حفنة سياسية إلى انتقاد الجيش؟
في المرحلة المقبلة، ربّما يكون على الجيش أن يرمي الماء الذي في فمه، وأن يرمي القفازات في وجه الجميع. وعليه أيضاً أن يجد الخيط الدقيق، بين التزامه القرار السياسي كأيّ جيش في العالم، ورفضِه الوقوع تحت وطأة المنازعات السياسية التي تحوِّله أحياناً مادة للنزاع بدلاً من أن يكون المرجعية.
من دون ذلك، سيكون الجميع في المأزق. وبالتأكيد، لن يكون «الجيش هو الحلّ»، لكنّ الحلَّ لا يكون إلّا بوجود الجيش، لا في غيابه ولا على حسابه.