Site icon IMLebanon

لا دولة مع مقاومة

يحلو لكتّاب وصحافيين البحث عن اللحظة التي أصبح فيها «حزب الله»، خارج بنيتي الدولة والاجتماع اللبنانيين وعبئاً وتهديداً لهما. يقول البعض إن تلك اللحظة هي يوم رفض الحزب تسليم سلاحه الى السلطة اللبنانية بعد الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب عام 2000 للمرة الثانية، بعد استثنائه من خطوة مشابهة جرت بعد انتهاء الحرب الأهلية في 1990، أو عندما أطاح محاولات تطويق الأزمة التي فجرها اغتيال رفيق الحريري، ودفع البلد الى حرب مدمّرة في 2006، أو عندما غزا العاصمة بيروت في أيار (مايو) 2008…

كلها مواعيد تصلح لإبراز ابتعاد هذا الحزب عن باقي المكونات اللبنانية، وحمله الطائفة التي يشكل القوة الأكبر فيها على الاقتداء به، لأسباب وأدوات معروفة تترواح بين الخوف من عودة الاحتلال الإسرائيلي وبين التعبئة المذهبية. النأي عن اللبنانيين الآخرين الذين امتنعوا عن السير في الطريق الذي شقّه «حزب الله»، وسعى بأساليب ووسائل شتى الى زجّهم فيه، مدعماً بالاحتفاظ ببنية عسكرية وأمنية واقتصادية موازية لتلك التي يتشارك فيها اللبنانيون الآخرون، يشكّل عقبة رئيسة أمام ظهور مجتمع ودولة وسلطة موحّدة في المدى المنظور.

لكن اللحظة المؤسسة للتفارق بين الحزب وبين باقي اللبنانيين، كانت لحظة التأسيس (بغض النظر عن موعده المعتمد سواء في صيف 1982 أو عند إعلان «الرسالة المفتوحة الى المستضعفين» في 1985).

غني عن البيان أن «حزب الله» لم يكن فريداً في وقوفه خارج بنية الاجتماع السياسي اللبناني، وفي السعي الى تقويضها. لقد سبقته في ذلك أحزاب وقوى عدة، منها ما تبنى أيديولوجيات أممية وقومية لا تعترف بالكيانات الوطنية وحدودها، ومنها ما التحق بقوى الإسلام السياسي على اختلاف مدارسه ومذاهبه. وفي حقبة الحرب الأهلية، عندما اتفقت الأحزاب هذه على حمل السلاح في وجه بعضها البعض، يمكن القول إنها كلّها عملت على هدم مؤسسة الدولة مع كل ما كان في هذه المؤسسة من عيوب ونواقص، ساهمت في الخروج عليها وتشريع بل عقلنة الدعوات الى تدميرها. ولا تخرج عن هذا التعريف الجهات التي شاركت في المقاومة المسلّحة ضد الاحتلال الإسرائيلي، ذلك أن المقاومة بهذا النوع هي الشرط الملازم لغياب الدولة. تجارب المقاومات في أوروبا ضد النازية وفي دول العالم الثالث ضد الاستعمار، تؤكد هذا المنحى ولا تنفيه. باختصار، لا مقاومة مع دولة.

شهدت الأعوام التي تلت انتهاء الحرب، تطويع وإخضاع وانصياع القوى المقاتلة السابقة بوسائل عدة، للوصاية السورية التي اتخذت من مشروع إعادة بناء الدولة اللبنانية غطاء لها، وصُنع إجماع على إبقاء «سلاح المقاومة» – هكذا من دون تعيين – في يد المقاومين الى أن يقضي الله أمراً. اندحار إسرائيل عن الجزء المحتلّ من لبنان، لم يعنِ عملياً شيئاً لأصحاب السلاح غير تعزيز ارتباطهم بالاستراتيجية التي أنتجتهم في المقام الأول، الاستراتيجية الإيرانية أولاً، ثم تلك التي تقاطعت فيها مصالح النظام السوري والمصالح الإيرانية. اتفقت هذه الاستراتيجية مؤقتاً مع مصلحة اللبنانيين في تحرير أرضهم المحتلة من إسرائيل. ثم انتهى هذا التقاطع.

بهذا المعنى، يشكّل الحزب بسلاحه خصوصاً، ثقباً كبيراً في البنية السياسية اللبنانية، يحول دون تراكم الجهود اللازمة للخروج من حالة تفكّك المجتمع الى وضع يسمح بجمع المكونات حول مصالح وتوافقات، تسمح بعقد اجتماعي وسياسي جديد بين اللبنانيين. وليس كشفاً عظيماً القول إن العديد من القوى الطائفية المتمسكة بمؤسساتها البديلة عن مؤسسات الدولة، تؤدي دور الرافد والمساعد، سيّان وعت أم لم تعِ، لإرجاء ظهور مجتمع لبناني واستطراداً لتعقيد أزمة الكيان المؤجل وتعميقها.

يقود هذا الى سؤال من مستوى آخر: هل لنا حاجة الى دولة أو الى مجتمع؟ عواصف البربريات تجعل التساؤل ملحاً وشرعياً.