تأتي زيادة الطلب الحكومي على الأموال في الأشهر الثلاثة الأولى من العام 2018 (ما يوازي 3 مليار دولار) لتدفع إلى الواجهة مُشكلة الدين العام وتسارع نموّه.
تُظهر التحاليل أن الزيادة في الديّن العام تتسارع بحكم عجز الإقتصاد عن إمتصاص عجز الموازنة الناتج عن إرتفاع النفقات.
وتُشير أرقام جمعية المصارف إلى ان الدين العام بلغ 82.3 مليار دولار أميركي في نهاية الربع الأول من العام 2018 مقارنة بـ 79.3 في نهاية العام 2017. وإذا كانت هذه الزيادة مُبرّرة بإستحقاقات الدولة من ناحية الإنفاق العام وخدمة الدين العام، إلا أن تسارع نمو هذين البندين أصبح يُشكّل أزمة حقيقية أمام إستدامة مالية الدولة في الامد المتوسّط إلى البعيد.
محطّات الدين العام
يُمكن تقسيم إرتفاع الدين العام إلى ثلاثة مراحل أساسية:
أولًا: 1993 إلى 2004 حيث إرتفع الدين العام من 3 إلى 36 مليار دولار أميركي متأثّرا بسياسة الإستدانة بهدف الإستثمار.
ثانيًا: 2005 إلى 2016 إذ إرتفع الدين العام إلى أكثر من 75 مليار دولار أميركي بحكم سياسة الإنفاق بإعتمادات من خارج الموازنة وتحت تأثير التخبّط السياسي وتراجع النشاط الإقتصادي.
ثالثًا: 2017 إلى آذار 2018 إرتفع الدين العام إلى 82.3 مليار دولار أميركي نتيجة السياسات السابقة ولكن أيضًا نتيجة إستمرار إرتفاع الإنفاق العام (أكثر من 25 ألف موظف في القطاع العام في السنوات الثلاث الأخيرة).
خلال كل هذه المحطّات، كان الإنفاق العام يزيد بشكل يفوق مداخيل الدولة مما أدّى إلى خلق عجز مُزمن تحوّل إلى دين عام. ولم يستطع النموّ الإقتصادي إمتصاص هذا العجز نتيجة غياب السياسات الإقتصادية، ولكن أيضا نتيجة غياب الموازنات من العام 2006 إلى العام 2016 (37 مليار دولار). ولكن الأهم في كل ما حصل أن التخبّط السياسي الحاصل كان يتمّ حلّه في كلّ مرة على حساب الخزينة العامّة مما خلق ثقافة إنفاق (خصوصًا بعد عدوان تمّوز 2006) كان عمادها الإنفاق بإعتمادات من خارج الموازنة!
نشاط إقتصادي ضعيف مقارنة بالدين العام
من جهة النشاط الإقتصادي، حقق لبنان تقدماً ملحوظا متأثرا بسياسة الإستدانة بهدف الإستثمار، حيث تُرجم هذا الأمر بإرتفاع الناتج المحلّي الإجمالي من 7.5 مليار دولار في العام 1993 إلى 21 مليار دولار في العام 2004. لجم إغتيال الرئيس رفيق الحريري وعدوان تموز 2006، النمو الإقتصادي وبقي عند مستوى 21 مليار دولار بدافع مبدأ الإنيرثيا المعروف في الإقتصاد. إلا أن الأعوام 2007 إلى 2010، شهدت نموًا هائلًا في الإقتصاد وصل إلى رقمين بدافع الإستثمارات الأجنبية المُباشرة ورفع الناتج المحلّي الإجمالي إلى 38.5 مليار دولار. وقد شهدت الأعوام التي تلت (2011 إلى 2014) نموًا أيضًا جراء مفاعيل الإستثمارات التي أخذت بالإنخفاض إلى أن وصل الناتج المحلّي الإجمالي إلى 49.5 مليار دولار في العام 2015 ومنذ ذلك الوقت والنمو الإقتصادي يراوح الـ 1 إلى 1.5%.
تؤدي مقارنة نمو الدين العام ونمو الناتج المحلّي الإجمالي، إلى إستنتاج بديهي، هو أن النمو الإقتصادي لم يكن كافياً لإمتصاص العجز في الموازنة مما أدّى إلى رفع الدين العام ومعه خدمة هذا الأخير. إلا أن الأصعب في الأمر هو أن الحكومات المتعاقبة (بإستثناء حكومة الرئيس سليم الحص في العام 2000) لم تقم بأي إجراءات للجم الإنفاق العام حيث أن بند الأجور تضاعف بين العامين 2007 و2016 ليبلغ 4.89 مليار دولار سنويًا! أضف إلى ذلك، فإن الدعم الذي قدّمته الدولة لمؤسسة كهرباء لبنان على نفس الفترة بلغ 16 مليار دولار مُستنزفة بذلك خزينة الدولة التي سجّلت إنفاقًا يفوق 122 مليار دولار (على نفس الفترة).
تظهر مقارنة البيانات التاريخية للدين العام والناتج المحلّي الإجمالي إرتفاعًا في الدين العام نسبة إلى إرتفاع الناتج المحلّي الإجمالي المُتقلّب بين عام وأخر. فمثلًا في أيام المجد (2007 – 2010) كانت النسبة أقلّ من 1، في حين أنها إرتفعت إلى 3 في العام 2013، و14.5 في العام 2016، لتعود وتنخفض إلى 3 في العام 2017. ومن المُتوقّع بحسب المحاكاة الإحصائية أن ترتفع هذه النسبة في العام 2018 إلى 3.6 في ظلّ غياب أيّ إجراءات حتى نهاية شهر آب 2018.
إجراءات ضرورية
تنصّ النظرية على أن الإنتظام المالي في الامد البعيد لا يُقاس بعجز الموازنة بل بالميزان الأولي الذي يجب أن تكون قيمته أكبر من خدمة الدين العام. هذا الأمر مُبرّر لأن الدولة تُموّل إنفاقها عملا بالمعادلة التالية: الإنفاق العام + خدمة الدين العام = ضرائب + إصدارات الخزينة. وبالتالي فإن الزيادة في الإنفاق العام (أجور ودعم مؤسسة كهرباء لبنان) في ظل ركود إقتصادي (نفس مستوى الضرائب) يفرض زيادة في إصدارات الخزينة (أي زيادة الدين العام)، مما يعني إرتفاع خدمة الدين العام.
ويؤدي إرتفاع هذه الأخيرة إلى زيادة الإصدارات لتغطية الزيادة في خدمة الدين العام والإنفاق العام، وبالتالي من سنة إلى أخرى هناك إرتفاع ميكانيكي في زيادة الإصدارات محكوم بعاملين:
أولًا: زيادة الفجوة بين النمو الإقتصادي والفائدة على الدين العام؛
ثانيًا: سياسية الإستدانة في السنوات السابقة والتي تفرض مستوى مُرتفع من خدمة الدين العام.
وتنص النظرية الإقتصادية على أن الخروج من هذه الحلقة المُفرغة لا يُمكن أن يتمّ إلا من خلال زيادة النشاط الإقتصادي. وهذا الأمر يُمكن ملاحظته من خلال مقارنة الزيادة في الدين العام مع الميزان الأولي حيث تُظهر البيانات التاريخية أن إرتفاع الفائض في الميزان الأولي يؤدي حكما إلى خفض زيادة الدين العام والعكس صحيح.
وكما سبق الذكر، هناك مُشكلة هيكلية في الإقتصاد اللبناني من خلال ملاحظة أن الميزان الأولي بلغ في أحسن حالاته 1.66 مليار مقارنة بخدمة دين عام تبلغ 5 مليار دولار أميركي. من هذا المُنطلق هناك إلزامية على الحكومة لقيام بإجرائين ضروريين: أولًا، خفض الإنفاق العام بهدف لجم نمو الدين العام، وثانيًا تحفيز الإستثمارات بهدف خلق نمو إقتصادي لإمتصاص الدين العام.
بإعتقادنا بدون هذين الإجرائين هناك شبه إستحالة لإستدامة المالية العامة في الامد البعيد. من هنا أهمية الإسراع بتشكيل الحكومة وتنفيذ إلتزامات «سيدر» ومشاريعه.