IMLebanon

لا خيمة فوق الجامعة الاميركية

أصدر قاضي الأمور المستعجلة في بيروت نديم زوين قراراً، أمس، يلزم «الأخبار» بإزالة تقرير بعنوان «AUB ليكس» (ملفات الـAUB إلى القضاء الأميركي؟) مع مرفقاته عن الموقع الإلكتروني للجريدة ومواقع التواصل الاجتماعي. اضطرت «الأخبار» إلى تنفيذ القرار القضائي، على الرغم من «تعسّفه»، إلا أنها في المقابل قررت تقديم «إخبار» إلى النيابة العامّة، وهو ما كان يجدر بالقاضي القيام به، وكذلك تقديم بلاغ إلى وزارة الصحة تثميناً لجهودها الحالية في مكافحة الغش، ولا سيما أن الوثائق التي أمر القاضي بعدم نشرها تتضمن اتهامات بتصريف أدوية منتهية الصلاحية في مستشفى الجامعة وتضخيم فواتير وزارة الصحة والضمان الاجتماعي، فضلاً عن التهرّب الضريبي

ليست هناك إساءة بحق واحدة من أهم الجامعات في لبنان وأعرقها أكبر من الإساءة التي اقترفتها إدارة الجامعة الأميركية في بيروت. فقد لجأت إلى قاضي الأمور المستعجلة في بيروت نديم زوين، وانتزعت منه قراراً متعجّلاً يقضي بإزالة تقرير مع مرفقاته (20 وثيقة) عن موقع «الأخبار» على الإنترنت وعلى شبكات التواصل الاجتماعي، وكذلك عن الصفحة الشخصية لمعدّ التقرير (حسين مهدي) على الفايسبوك.

هذا التقرير نشرته «الأخبار» يوم الجمعة الماضي بعنوان «AUB ليكس» (ملفات الـAUB إلى القضاء الأميركي؟)، وهو يتضمن مستندات ووثائق تتعلق بمداولات جرت بين العديد من أعضاء مجلس الأمناء والمديرين والموظفين والمحامين تشير إلى وجود «فساد» و»سوء إدارة» و»محاولات» للتعمية عليها وتحييد بعض الضالعين فيها… والأهم «العمل» على تجنب وصول هذه المعلومات إلى المدعي العام في ولاية نيويورك، حتى ولو تطلب ذلك الاستعانة بنافذين.

القاضي زوين استجاب بقراره (الصادر في 19/11/2014) لطلب تقدمت به إدارة الجامعة الأميركية في بيروت، بتاريخ 17/11/2014، (بواسطة المحامية رندى شاكر أبو سليمان من مكتب أبو سليمان للمحاماة). إذ اعتبرت إدارة الجامعة في استدعائها أمام قاضي الأمور المستعجلة أن «الأخبار» نشرت في تقريرها «وثائق ومستندات ومراسلات سرية، وهي داخلية خاصة بالجامعة الأميركية في بيروت»، وبالتالي أقرّت بصحّتها، مشيرة إلى وجود 1000 مستند من 1220 صفحة من هذا النوع، وطالبت القاضي بحمايتها من إفشاء المعلومات القيّمة التي تتضمنها هذه الوثائق.

وكيل «الأخبار» المحامي نزار صاغية، ردّ في ملاحظاته أمام القاضي زوين قائلاً «إن هذا الاستدعاء يشكل وسيلة لكمّ الأفواه المطالبة بالإصلاح داخل الجامعة وخارجها». وقال: «هذا هو أساس الدعوى. وتكون الإشكالية تبعاً لذلك متصلة بحق المستدعى بوجهها أو أي طرف آخر بإعلاء الصوت ضد الفساد والتشهير بالفاسدين تحقيقاً للمصلحة العامة، أو معاقبة الصحافة الملتزمة قضايا الفساد وإلزامها بإهمال الأدلة والبراهين والوثائق الموجودة بحوزتها إرضاءً لإدارة الجامعة وطعناً بمستقبل طلابها وحظوظ الشباب بالانتساب إليها». وخلص صاغية إلى القول: «نحتكم إلى حكمتكم اليوم للوقوف صفاً واحداً تحقيقاً للمصلحة الاجتماعية بوجه النظام الظالم والفاسد».

ولكن، بدلاً من أن يمعن القاضي زوين جيداً في مضمون الوثائق المنشورة ويحيلها فوراً على النيابة العامّة للتحقيق في مضامينها الخطيرة، عمد إلى تبنّي اجتهاد لا يراعي مبادئ حرية الصحافة وحق المواطنين بالمعرفة والوصول إلى المعلومات الموثّقة والمحددة المصدر، ولم يأخذ بالاعتبار أن هذه الوثائق تكشف «فساداً» متعدد الوجوه، يشمل الاستيلاء على المال العام من خلال التهرب الضريبي في حالة مذكورة في إحدى هذه الوثائق، وكذلك تضخيم فواتير الاستشفاء والأدوية على حساب وزارة الصحّة والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، بالاضافة إلى إساءة الأمانة في إدارة أموال الجامعة.

هذا الاستدعاء يشكل وسيلة

لكمّ الأفواه المطالبة بالإصلاح داخل الجامعة وخارجها

استند قرار القاضي زوين إلى المادة 583 من قانون العقوبات، وهي تمنع مرتكب الذم، تبريراً لنفسه، إثبات حقيقة موضوع الذم أو إثبات اشتهاره. وبالتالي انتهى القاضي زوين إلى خلاصة تعتبر أن نشر أي وقائع تطاول «كرامة الجامعة» تُعَدّ ذماً حتى ولو كانت قد حصلت فعلاً! وبحسب القرار، يحظر حظراً باتاً أي تشهير بفساد أي مؤسسة أو شركة تجارية خاصة مهما بلغ حجمها أو حجم فسادها. وهذا يؤدي إلى نتائج عبثية تماماً. كأن يكون لهذه المؤسسات الحرية في أن ترتكب ما تشاء من مخالفات وتزور فواتير وتسرق من الأموال العامة وتبيع أدوية منتهية الصلاحية من دون أن يكون للصحافة أي حق بفضحها. وهذا يتعارض كلياً مع أصول العمل الصحافي ومع مبدأ أساسي في قانون الجزاء الذي يفترض أن لا جرم إلا بوجود نية جرمية. والثابت في هذه القضية أن النية الجرمية منتفية تماماً. إذ إن «الأخبار» قدّمت في ملاحظاتها للقاضي زوين (ردّاً على استدعاء إدارة الجامعة الأميركية) ما يكفي من البراهين على أن نشر هذه الوثائق يتصل اتصالاً وثيقاً بتحقيق مصلحة عامة وحماية المال العام وحقوق المرضى ومصالح الجامعة وهيئتها التعليمية وطلابها. ففي ظل صدور هذا القرار القضائي يصبح من الواجب التساؤل: بماذا يختلف ما فعلته «الأخبار» عمّا يفعله الوزير وائل أبو فاعور من فضح لشركات تجارية تسوق أغذية فاسدة؟ أليس المنطلق هو نفسه: فضح الفساد؟ أليست «الأخبار»، كما وزير الصحة، مجهزة بوثائق تثبت حقيقة وجود الفساد؟ إن مبدأ «الحق بالتشهير» لقي نقاشاً طويلاً في دفاع الوزير السابق شربل نحاس ضد الشركة صاحبة متاجر سبينس، ومديرها مايكل رايت، التي ادعت عليه بالقدح والذم. فقد أدلى نحاس في الدعوى المذكورة بمبدأ «التشهير حق حين يكون واجباً» إبراءً لذاته، مطالباً بحقه في إثبات حقيقة استخدام الشركة لوسائل ترهيبية ضد أجرائها. وهذه القضية لا تزال عالقة الى اليوم أمام محكمة التمييز.

«الأخبار» أدلت امام القضاء بعدد وافر من الاجتهادات اللبنانية والفرنسية التي تسمح بالتضحية بكرامة أشخاص معينين عملاً بمصلحة عامة، وفنّدت للقاضي طبيعة كل وثيقة ومضمونها المتصل بقضايا فساد ومداولات لبحث كيفية إسكات «الإخبار» وعقد صفقات معها. إلا أن قرار القاضي زوين تضمن حيثية مفادها «أنه لا يتبين من ظاهر الحال أن الإساءة الفاضحة (…) مبررة بمصلحة عامة استثنائية». لم يحدد القرار معنى اشتراط مصلحة عامة «استثنائية» لتبرير فضح الفساد؟ ألا يكفي وجود مصلحة عامة عادية (مثلاً)؟ ثم، ألا يعدّ «مصلحة عامة استثنائية» إقرار الجامعة بتزوير فواتير للحصول على بدلات غير مستحقة من المال العام، أو إقرار الجامعة باستخدام أدوية منتهية الصلاحية لديها؟ ألا تشكل هذه الأمور مسّاً بالسلامة العامة، وتالياً انتهاكاً لمصلحة عامة استثنائية؟ ألا يستدعي ذلك فضح هذه الجامعة ذات الحجم الكبير دفاعاً عن حقوق المواطنين والخزينة العامة؟ من هذه الزوايا كافة، شكل القرار انتهاكاً كبيراً لحرية التعبير، وتحديداً لحرية الصحافة، في فضح الفساد وأمّن ستراً للفاسدين الذين لوحوا مراراً في الوثائق المنشورة بقدرتهم على صرف النفوذ لإسكات الصحافة ومنع نشر ما يعزز الشبهات بالممارسات الحاصلة في هذا الصرح العريق.

اللافت أن القرار استند إلى «سرية الوثائق الخاصة». علماً أن السرية تصطدم هنا بحق المواطنين في الاطلاع المكرسة في العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الذي أقره لبنان، وهو حق أسمى يسمح باستبعاد السرية كلما برزت مصلحة عامة، لا خاصة، تبرر التضحية به. والواقع أن الوثائق تتضمن اعترافات بارتكاب جرائم جزائية. وبالتالي، كان الأجدى بالقاضي زوين أن يحيل الملف (التقرير والوثائق) على النيابة العامة. وهذا ما ستقوم به «الأخبار» من خلال تقديم بلاغ لوزارة الصحة تثميناً لجهودها الحالية في مكافحة الغش وأيضاً للنيابة العامة لكي تتحرك.

خلص قرار القاضي زوين إلى إلزام «الأخبار» بالآتي:

أولاً: إلزام شركة أخبار بيروت ش.م.ل. بإزالة المقال المعنون «AUB ليكس» المنشور بتاريخ 14-11-2014 مع مرفقاته (the links) عن الموقع الإلكتروني العائد لها فوراً وبحجبه نهائياً وعدم نشر المرفقات مجدداً تحت طائلة غرامة إكراهية قدرها أربعون مليون ليرة لبنانية عن كل يوم تحصل فيه مخالفة القرار،

ثانياً: إلزام السيد حسين مهدي بإزالة المقال المذكور في البند «أولاً» من هذا القرار مع مرفقاته عن موقع الفايسبوك العائد له ومن حسابه في أي موقع تواصل اجتماعي آخر فوراً وعدم نشرها مجدداً تحت طائلة غرامة إكراهية قدرها عشرون مليون ليرة لبنانية عن كل يوم تحصل فيه مخالفة للقرار،

ثالثاً: تكليف المساعد القضائي غسان مشلب إبلاغ القرار من شركة أخبار بيروت ش.م.ل. ومن السيد حسين مهدي فوراً وبالإشراف على التنفيذ، كما وتكليف الخبير فؤاد عقيقي بمراقبة التنفيذ لمدة أسبوع بأية طريقة تقنية ممكنة وبتقديم تقرير فور انتهاء المدة، على أن تسلف الجهة المستدعية مبلغ 200,000 ل.ل. على حساب أتعاب الكاتب و300,000 ل.ل. على حساب أتعاب الخبير،

إذاً، اتخذ القاضي زوين قراره على الرغم من إقرار إدارة الجامعة بأن الوثائق المنشورة ثابتة وصحيحة، وعلى الرغم من أن الفساد ثابت ولا يدخل ضمن حملة عشواء ومغرضة للإساءة إلى الجامعة، كما تحاول المستدعية إيهام المحكمة، وإنما تثبت صحة الشكوك بشأن إدارة أموال الجامعة ومشروعيتها، ما يؤثر تلقائياً في المستوى التعليمي ومصلحة الطلاب. لم يأخذ القرار القضائي بالاعتبار أن ما نشرته «الأخبار» يبرر التشهير بالفاسدين نظراً إلى وجود مصلحة اجتماعية فائقة بفضح الأعمال التي تمارسها إدارة الجامعة.

هذه ليست المرة الأولى التي تلجأ فيها إدارة الجامعة الأميركية إلى القضاء المستعجل لإسكات الإعلام، إذ أقدمت في وقت سابق على رفع دعوى ضد قناة MTV (برنامج تحقيق) لمنعها من بث حلقة خاصة بالفساد الحاصل في الجامعة عبر استضافة أحد أعضاء مجلس الأمناء السابقين. وقد استجاب القاضي لطلب الجامعة يومها.

في إحدى الوثائق التي أمر القاضي بإزالتها عن موقع «الأخبار» يجري استعراض طرق شتى لإسكات الصحافة، عبر القضاء، أو عبر العزائم والمشاركة في المناسبات الاجتماعية، أو عبر التفاوض والوصول إلى تفاهم مع «الأخبار»، والتقرب من نقابة الصحافة اللبنانية لإنجاز المهمة. يفاخر مقدم أحد الاقتراحات بتدعيم موقفه بحكمة صينية تقول: «أبقِ أصدقاءك بالقرب منك، وأعداءك (أو أعداءك المحتملين) أقرب».

في مواجهة كل ذلك، تتمسك «الأخبار» بواجباتها المهنية في نشر كل ما يدين الفساد، وهي لذلك تردد «لا خيمة فوق أحد. ولا حصانة لإدارة الجامعة الأميركية».