ذات يوم، ستنتهي الأزمة في سوريا. طال موعد ذلك اليوم أو قصر، في النهاية سيأتي. ربّما تعود تلك البلاد أقوى مِمّا كانت. ستكون هنالك ذاكرة جمعيّة عن كلّ ما حصل، ستتوارثها الأجيال، وسيكون فيها، مِن جملة المأساة، أن «الشعب اللبناني» كان عنصريّاً معنا. مُرعبٌ هذا التعميم الذي يؤصّل له بعض إعلام اليوم.
سيكون الثمن قاسياً غداً. سيكون مِن الصعب على لبناني، كفرد، أن يُخبِر السوريين أنّه لم يكن مِن العنصريين، وأنّ عائلته لم تكن كذلك أيضاً، وأنّه واجه أعباء اللجوء الطبيعيّة، التي فاقمتها سُلطة بلاده بتخلّفها، مِن غير أن يَعبس مرّة في وجه سوري، وأنّه تقاسم اللقمة مع السوري بلا مِنّة. كلّ هذا ربّما لن يعفيه مِن الانتقام.
هل «الشعب اللبناني» عنصريّ حقّاً؟ كيف سمح البعض لنفسه بهذا التعميم الإجرامي! كيف تُرِك لبعض الصبية، مِن الناشطين والناشطات، اللعب بهذه المفاهيم الاستراتيجيّة! ومع مَن؟ مع الدولة الكبيرة التي تحيط بلبنان جغرافيّاً مِن كلّ جانب، باستثناء الجنوب، حيث ينتظرنا عدو يتحيّن لحظة ثأره. يومذاك أين المفرّ؟ هناك عنصريّون بيننا؟ حتماً، لا نقاش، ولكن لا، لسنا «شعباً» عنصريّاً. هذا ما يجب أن يُقال اليوم وبصوت عالٍ. أكثر مَن واجه العنصريين مِن اللبنانيين كانوا لبنانيّين. هذا يَجب أن يُحفظ. مِن بين اللبنانيين مَن خرج، وعلى صفحات الجرائد، داعياً هذا الوزير أو ذاك النائب، هذه القناة أو تلك الجهة، إلى الاعتذار مِن السوريين. هناك مِن بين اللبنانيين مَن خرب علاقته بهذا أو ذاك، مِن الأصدقاء أو النافذين، ودفع ثمن ذلك، مِن أجل حفظ كرامة السوريين.
يَجب أن يدوّن أن صاحب أسرة لبنانيّة، مثلاً، ذهب إلى حديقة الصنائع، مِن أجل فسحة أطفاله، فلم يجد لهم مساحة للوقوف. تلك الحديقة الصغيرة، التي تكاد تكون الوحيدة في بيروت، تمتلئ عن آخرها نهاية كلّ أسبوع بغير اللبنانيين. أكثرهم مِن السوريين. لم يكن لصاحب تلك الأسرة مشكلة في نوعية الوافدين، ليس لديه نزعة عنصريّة، إنّه يُحبّ كلّ كائنات كوكب الأرض، لكن هذا لا يعني أنّه لم ينزعج مِن عدم وجود مكان لفسحة أطفاله. المشكلة في الزحمة نفسها، حتّى وإن كان كلّ الحاضرين لبنانيين. السوريون اعتادوا في دولتهم، قبل الأزمة، الذهاب إلى الحدائق العامة في بلادهم، إذ تحرص الدولة على إنشائها في كلّ تجمّع سكني. هذه «ثقافة عمرانيّة» غير موجودة في لبنان. أن ترى شجرة في بيروت، فهذه تكاد تُصبح مُعجزة. هل على اللبناني ألا يشكو مختلف أشكال المزاحمة؟ هذا ظلم. الفارق أنّ عليه أن يكيل اللعنات على سُلطات بلاده، التي فشِلت في تنظيم ملف اللجوء السوري وسواه، بدل أن يتعرّض للسوري نفسه. سُلطة كانت أفشل في كنس نفايات الشوارع. الحديث هنا عن لبناني متضرر، على المستوى الشخصي، لا عن شخص لديه نزعة عنصريّة متأصلة، سواء تضرّر أو لا، وذلك لأسباب ثقافيّة سافلة. هذا غير ذاك. التمييز بين النوعين ليس ترفاً. ليس خياراً. هناك سُلطة في لبنان تسبّبت في تفاقم البطالة، وهذا لا علاقة له باللجوء، فأصبح الشاب اللبناني البسيط يَسمع يوميّاً عن مليوني لاجئ سوري في بلده، وعن مئات آلاف مِن جنسيّات أخرى، فلم يستطع إلا أن يربط بين بطالته واللاجئين. هذا نفسه ضحيّة. هل كان هنالك توعية علميّة لأمثال هؤلاء الشبّان؟ هل خُصّصت دعايات إعلانيّة مِن قبل الوزارات، أو حتّى الجمعيّات، لإيضاح هذه المسألة؟ كلّا.
ليس تفصيلاً الحديث عن مليوني لاجئ في بلد يُقال إن عدد أبنائه القاطنين لا يتجاوز الأربعة ملايين. الحديث عن النصف (الأمم المتّحدة نفسها أصبحت تشفق على لبنان). الرقم نفسه تقريباً وجدناه في تركيا، مع فارق المساحة القاريّة هناك، وعدد القاطنين مِن أبنائها الذي يصل إلى نحو 80 مليوناً. المقارنة رهيبة. هناك في اسطنبول حيث سمعنا عن رفض الأتراك تأجير منازلهم للسوريين، فضلاً عن حالات الاعتداء المباشر، ومع ذلك لم نسمع عن «موجات إعلاميّة» تتحدّث عن «عنصريّة الشعب التركي». الدولة التركيّة التي ابتزّت أوروبا باللاجئين السوريين على أراضيها، طالبة، في مقابل عدم تحريكهم كورقة ضغط، أن يَحصل كلّ مواطن تركي على تأشيرة دخول إلى الاتحاد الأوروبي. هذا لم يَحصل في لبنان. أمّا دول الخليج، ما فوق الغنيّة، التي لم تفتح أبوابها ولو للاجئ سوري واحد، فلا نجد مَن يُشهّر بها إعلاميّاً. إنّها لا ترد ضمن لوائح «الدول الأكثر عنصريّة». غريب!
مِن جانب آخر، أظهرت السنوات الأخيرة ضحالة وسائل الإعلام معرفيّاً، وإلى جانبها بعض «الناشطين الحقوقيين» مِن المراهقين، إذ راحوا يُسقطون توصيف العنصريّة اعتباطاً على كلّ حالة. لا يُميّزونها عن الطبقيّة مثلاً. مَن مِنهم قرأ تعريفها… أو تعريفاتها. أصبحت العنصريّة كلفظة، على خطورتها، أسهل مِن شربة الماء عند راكبي الموجات الحقوقيّة. مئات القرى في لبنان، فضلاً عن المدن، التي تضم لاجئين سوريين، لم نسمع عن أيّ عنصريّة ضدّ السوريين فيها. ماذا عن هؤلاء؟ العنصريّون موجودون في لبنان، كما في كلّ العالم، وهذا ليس حدثاً فريداً، وقد خرج لبنانيّون كثيرون وتصدّوا لهم. ليس «الشعب اللبناني» عنصريّاً. لا للتعميم (سافراً أو مقنّعاً). السوريّون كانوا ولا يزالون في قلوب كثيرين مِن اللبنانيين. هذا ما يُجب أن يُحفظ للتاريخ.