الأيام القادمة قد لا تبشر بالخير. وربما لن يستطيع أحد أن يمنع ما هو قادم، خصوصاً بعد الاعتراض على التسوية الرئاسية التي طرحت في الأسابيع الماضية واعتبارها عملية متسرّعة رغم أنّ الشغور الرئاسي قارب عامه الثاني. وهذا يعني أنّ هناك انتظارات لبنانية ميدانية تغيّر في الواقع. يعني أن هناك أكثريّة في لبنان تعيش على ايقاع الميادين الملتهبة، وأنّ لبنان ساحة من ساحات النزاع الحامي.
لا أعتقد أنّني أتحدّث عن أمرٍ غامض لا يعرفه اللبنانيّون، لا بل هم متورطين فيه. والطائفية أصبحت هوية وحيدة أمام زوال الهويات الوطنية والأيديولوجية والمدنية. ولا وجود لأي كيان أو رأي عام أو جماعة غير طائفية، فالغير طائفيّين هم أفراد مأزومون طائفيّاً وليسوا متجاوزين لطوائفهم، ومعظمهم إصلاحيّون طائفيّون، أي طائفيّون لطفاء. وربما قد أصبح قيام مكوّن مجتمعي أو سياسي غير طائفي أمراً مستحيلاً.
سيتفرّق الأحباب من جديد وننتهي من التنسيق داخل هذا التحالف أو ذاك، وننتقل إلى المواجهات العلنية والطائفية بدون مواربة أو ادعاء. أعتقد أيضاً أنّ الميدان اللبناني سيشهد تجليات الميادين الأخرى، ولا داعي للشرح والتوصيف لأنّنا مسمّرون ليلَ نهار أمام الشاشات ونشاهد ماذا يحدث في سوريا واليمن والعراق وليبيا، بالإضافة إلى تفجيرات إسطنبول وجاكرتا، وأيضاً ما تمّ استدعاؤه رسمياً الى لبنان عبر الأحكام القضائية في اليومين الماضيين.
أعتقد أنّه من الواجب الاعتراف أنّنا راهنّا على الطائفية الإيجابية في الحقبة الانتقالية، وبالذات بعد التسوية التاريخية عام ٨٩ في الطائف، فاحترمنا تحمّل الطائفة المارونية ظلم التهميش بعد اغتيال رينيه معوض، ثمّ بانتخابات ٩٢ النيابية، وجدارة قيادة هذه الطائفة الروحية والمدنية بالانتصار لفكرة الدولة الوطنية رغم الاعتقال والظلم والاقصاء. وأيضاً احترمنا تحمّل الطائفة الشيعية مهمّة التحرير من الإحتلال الاسرائيلي الذي كان عائقاً أمام استعادة لبنان لسيادته. واحترمنا أيضاً تحمّل الطائفة السنيّة مهمّة إعادة الإعمار وخصوصاً في بيروت الجامعة لتعود مساحةً للحياة الوطنية وعاصمة لكلّ اللبنانيّين. كما احترمنا التفاعل الإيجابي للطائفة الدرزية، والحضور النوعي للطائفة الارثوذكسية والدور الانفتاحي للطائفة الكاثوليكية والدور الوطني للطوائف الأرمنية والحضور العقلاني للطوائف الأخرى.
ستة وعشرون عاماً ذهبت أدراج الرياح بأحلامها وأخبارها وأجيالها وإعمارها وتحريرها ونداءات مطارنتها وقرنتها وشهدائها وأبطالها وصحفها وتلفزيوناتها واذاعاتها. وها نحن نعيش الآن لحظة مفزعة لم نكن نتوقّعها، لأنّنا كنّا نعتقد أنّنا حرّرنا أرضنا وإرادتنا، واستعدنا سيادتنا واستقلالنا، وشرعنا في بناء دولتنا. وكنّا نتحضر لنغادر طوائفنا الى وطننا ونحقّق شرعيّتنا بتحرّرنا من قيدنا الطائفي. الآن لا بدّ من أن نعترف أنّ أي إعادة لإحياء الطائفية هو تجديد للعملية التدميرية للتجربة الوطنية اللبنانية لأنه من المستحيل أن تتوفر نخبة وطنية نيّرة تقود الطوائف دائماً.
لا أعتقد أيضاً أنّه بات من الممكن التحدّث عن طائفة غير طائفتك، أو التحدّث حتى داخل طائفتك، إلا إذا كان الحديث طائفياً. لا أعرف أين يذهب غير الطائفيين ومع من يتحدثون ولِمَن يكتبون. مساكين هم هؤلاء اللبنانيين الغير طائفيين لأنهم في الأيام القادمة سيدخلون حقلاً من الألغام والأزمات المتعاقبة وغير المبرّرة في السياسة والأمن والاقتصاد، وذلك من أجل تغطية تسويات في سوريا بالذات، تنتج إدارةً جديدة للنزاع هناك، مما يستدعي إعادة تكوين سلطة في لبنان تتلاءم مع الواقع السوري الجديد. وهذا ما قد يفسّر الكثير من الأحكام والمبادرات المباغتة، مما يعيد انتاج النظام الطائفي بتوازنات جديدة، لأنّه «لا صوت يعلو فوق صوت الطوائف».