IMLebanon

ما حدا يعني ما حدا

   

 

مهما كان شكل الحكومة المقبلة، تكنوقراط أو تكنوسياسية أو حريرية – باسيلية، لم يفطن أهل السلطة شيئاً من انتفاضة تشرين، وها هم يعيدون إنتاج سلطتهم ذاتها حاملة سياسات لا تختلف كثيراً عن سابقاتها. قد تُوقف الحكومة القادمة بعض الهدر والفساد وسيسمونه إصلاحاً، لكنّ هذا الإصلاح ما هو إلاّ ضرورة ملحّة لإطالة عمر منظومة الحكم بضعة أشهر، وليس إصلاحاً يبني لبناناً قوياً.

 

كثر الحديث من قبل السلطة في الشهرين الأخيرين عن الأموال المنهوبة، كما كثر التبرير للأموال المحجوزة من قبل المصارف. أما في الشارع فكثرت الأسئلة والاستفسارات عن اقتصادٍ وسوقِ عملٍ يسمعون عنهما لكن لا يلمسونهما. فلا بد من شرح سريع عن سبب تركيز السلطة على «النهب» وسبب تساؤل الشعب عن اقتصاده.

أولاً، فكرة استرجاع الأموال المنهوبة هي كذبة. بدايةً، لتكون الأموال منهوبة يجب الإثبات في المحاكم أن من نهب المال قام بالاستحواذ على الأموال بطريقة غير شرعية يعاقب عليها القانون. وفي حال المال العام المنهوب، هذا الناهب قد يكون استغلّ موقعه للإثراء غير المشروع. حسناً لننظر في مثل افتراضي: طلب الوزير «ألِف» دراسة لتنفيذ مشروع في وزارته وفوّض شركة استشارات عالمية القيام بالدراسة مقابل مليون دولار. الدراسة لم تكن ضرورية، لكنها من صلاحيات الوزير ورُصد لها المبلغ المطلوب في موازنة الوزارة. أُنجزت الدراسة وها هي تجمع الغبار على رفّ الوزارة. في المقابل، إبن الوزير «ألِف جونيور» حصل على وظيفة في مكتب شركة الاستشارات العالمية في دبي، حيث يشغل صديق الوزير منصب المدير الإقليمي للشركة. ما هو موقف المحكمة من هكذا قضية وأي محكمة تملك الاختصاص القضائي فيها؟ في لبنان توجد آلاف حالات الهدر المماثلة على مدى السنوات، لكن محاولة محاكمة أي من المسؤولين عنها ستكون مضيعة للوقت والموارد، واسترداد أي مال في هذه الحالات شبه مستحيل. التشدد في معاقبة حالات الهدر قد يقي ضد حالات مستقبلية، لكن لن ينفع في استرجاع مال تبخّر. ورغم كل حالات الفساد والرشوى في إدارات الدولة كافة وعلى المستويات كافة، فإن التركيز عليها اليوم من أهل السلطة (وإعلام السلطة) هو لصرف النظر عن سرقة «قانونية» تقوم بها قوى السلطة منذ الطائف، وهي نصبة الدَّين العام، وهنا نجد الإجابة عن سبب حجز المصارف اليوم لأموال المودعين.

يقدّر الاقتصاديون أن 5 إلى 6 بالمئة من مال العالم فقط موجود بحلة ملموسة إما ورقية أو معدنية. أي لكل صورة خضراء لرئيس أميركي (أو بنجامين فرانكلن الذي لم يحل رئيساً رغم أن صلعته هي الأكثر قيمة بين الدولارات) يوجد أكثر من عشرة أضعاف الدولارات الافتراضية تزيّنها صورة دونالد ترمب. لكن المال الموجود في المصارف هو أقل من ذلك إذ أن المصارف لا تحتفظ بالمال الافتراضي بل تستثمره لتحقق أرباحاً (افتراضية أيضاً). مصارف لبنان، اسم الله عليها، تتباهى منذ عقود أنها تراكم الأرباح وأنها القطاع الحيوي الوحيد الذي يحمل اقتصاد لبنان على كتفيه. ما هي استراتيجية الاستثمار التي تحقق هذه الأرباح سنة بعد سنة من دون انقطاع على مدى ثلاثين سنة؟ إقراض الدولة اللبنانية. طبعاً، أول سؤال يراود رأس أي عاقل هو: من هو الغبي الذي يرمي بماله على دولة فاشلة؟ هو ليس غبياً، بل هو ضامن لماله لأنه هو من يتحكم بالقرار السياسي في الدولة وسيعطي دائماً الأولوية لتحصيل ماله أولاً على حساب أي شيء آخر، من مشاريع بنى تحتية إلى استثمارات تنموية إلى دعم القطاعات الاقتصادية المنتجة إلى معاشات موظفي الدولة (ولذلك يشيطن فصيل المصرفيين سلسلة الرتب والرواتب). ما يميز فصيل المصرفيين عن غيره من البشر هو جشعه اللامتناهي، فامتصّ دم الدولة التي يعتاش منها حتى آخر قطرة، ويقف لبنان اليوم أمام خيار إما أن ينعم الكون عليه بمعجزة التبرّع بالدم غير المشروط، مثل الغاز، ليكمل المصرفيون المصّ، أو جرعة دم مشروطة بخصخصة أعضاء البلد (لمصلحة المصارف طبعاً)، المتمثلة بأموال «سيدر».

 

«ما في حدا لا تندهي ما في حدا»، فإلى الانهيار در… علّه يولد غضب المواجهة المطلوبة

 

 

لكن أين دور الاقتصاد والرأسمالية والاشتراكية والماركسية والكينزية في كل هذا؟

كل ذلك لا يهم في ظل غياب القرار السياسي السيادي. السياسة هي سلسلة قرارات. لا يوجد نموذج أو فلسفة اقتصادية تحل كل المشاكل والأزمات وتنطبق على جميع الدول. في لبنان مثلاً، الاستدانة وإعطاء الأولوية للقطاع المصرفي على حساب الزراعة والصناعة والسياحة كانا قراراً اتخذه سياسيون تربطهم مصالح بالمصارف وليس نتيجة تنافس حر. في الولايات المتحدة، لا تدفع شركة أمازون أي ضرائب فيديرالية بسبب قرارات اتخذها سياسيون في صياغة قوانين ضريبية ملتوية تسمح للشركات الكبرى بالتهرّب من الضرائب، لا بسبب الرأسمالية. في فرنسا، تقليص ساعات العمل مقارنة ببلدان مجاورة لها ليس اشتراكياً، بل قرار اتُّخذ من سياسيين نتيجة ضغط نقابي. لكن لنعد إلى لبنان، تدمير المدرسة الرسمية لمصلحة المدارس الخاصة كان قراراً سياسياً. تدمير النقل العام لخصخصته كان قراراً وليس قدراً. الأسبوع الماضي اجتمع كبار المسؤولين الماليين في قصر بعبدا وقرّر المجتمعون «أهمية المحافظة على الأوضاع النقدية والنظام الليبرالي الذي لطالما تميّز به لبنان». بعدها بأيام، قرّر حاكم مصرف لبنان خفض الفائدة على الودائع بالدولار ودفع نصفها بالليرة لتخفيف الضغط على موجودات العملات الصعبة. بالماهية نفسها كان من الممكن أن يكون القرار السياسي شطباً لجزء كبير من الدَّين العام وإيقاف المالية العامة على رجليها، واستخدام الأموال التي يتم توفيرها لتمويل صيانة مجارير البلد وتأمين تغطية صحية عامة وبناء شبكة قطار خفيف للنقل العام في المدن، وهذا كله مقابل كلفة خدمة الدَّين العام لسنة واحدة فقط. كما يمكن اتخاذ قرار يفرض الضرائب على العقارات غير المشغولة وإجبار المضاربين على إشغالها إيجاراً أو بيعاً بأسعار أدنى بكثير مما يطلبونه اليوم لإعادة إحياء هذه السوق الراكدة بقيمتها الحقيقية لا الفقاعية وبذلك يتم جذب استثمارات جديدة. هناك قرارات سياسية كثيرة يمكن اتخاذها.

السياسة هي سلسلة قرارات، السيادة هي سلسلة قرارات سيادية، أما الاقتصاد فهو سلسلة قرارات سياسية لإدارة موارد الدولة. ولن «يصعد» شعب إلا إذا كانت هذه القرارات سيادية. طبعاً الطروحات أعلاه، تتطلّب مواجهة مافيات داخلية وخارجية قاتلة تتحكّم بمصير الشعب، وللمواجهة كلفتها. لكن كلفة عدم المواجهة أصبحت معروفة وواضحة جداً. «دمّنا نشف»، فلتكن المواجهة قبل أن يقطع نفسنا أيضاً. فهل من مواجِه؟ للأسف كل ما هو مطروح من قبل القوى التي تملك القرار السياسي، بشقَّيها الآذاريَّين، لا يوحي بذلك. أما طرح تنسيقية الشارع، أي الحكومة الانتقالية بصلاحية استثنائية والانتخابات المبكرة، فهو يبدو مضحكاً اليوم عندما تشاهد مئات المصروفين من أعمالهم والطوابير عند المصارف. إذن، «ما في حدا لا تندهي ما في حدا»، فإلى الانهيار در… علّه يولد غضب المواجهة المطلوبة.